لأجل الموعظة والاعتبار. فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية ولا بدّ أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ، ما يدلّ على استحسان الحسن واستهجان القبيح وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكيّ عنهم ، وإن لم تكن صحيحة في نفسها.
وهذا الأسلوب مألوف ، فإنّنا نرى كثيرا من كتّاب العربيّة وكتّاب الإفرنج ، يذكرون آلهة الخير والشرّ في خطبهم ومقالاتهم ، لا سيّما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريّين القدماء ، ولا يعتقد أحد منهم شيئا من تلك الخرافات الوثنيّة.
وقد جاء ذكر السحر في مواضع متعدّدة في القرآن وأكثره في قصّة موسى وفرعون ، وذكر هنا في الكلام عن اليهود. وإذا أردنا فهمه من عرف أهل اللغة وجدنا أنّ السحر عند العرب : كلّ ما لطف مأخذه ودقّ وخفي ، وقالوا : سحره وسحّره بمعنى خدعه وعلّله. وقالوا : عين ساحرة وعيون سواحر. وفي الحديث : «إنّ من البيان لسحرا». قال الأستاذ الإمام : في قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وجهان : أحدهما متّصل بقوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أي إنّ الشياطين هم الّذين يعلّمون الناس السحر.
والثاني ـ وهو الأظهر ـ أنّه متصل بالكلام عن اليهود (١) وأنّ الكلام عن الشياطين قد انتهى عند القول بكفرهم. وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم.
ثمّ قال تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) فأجمل بهذه العبارة الوجيزة خبر قصّة كانوا يتحدّثون بها ، كما أجمل في ذكر تعليم السحر فلم يذكر ما هو؟ أشعوذة وتخييل ، أم خواصّ طبيعيّة ، وتأثيرات نفسيّة؟ وهذا ضرب من الإعجاز في الإيجاز ، انفرد به القرآن. يذكر الأمر المشهور بين الناس في وقت من الأوقات ، لأجل الاعتبار به ، فينظّمه في أسلوب يمكن لكلّ أحد أن يقبله فيه مهما يكن اعتقاده. ألا ترى كيف ذكر السحر هنا وفي مواضع أخرى بأساليب لا يستطيع
__________________
(١) في قوله : وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ ... يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ جملة حاليّة عن ضمير الجمع من اتّبعوا.