فأخذ جبرئيل كفّا من حماة (طين أسود) فوضعها في فيه ثمّ قال : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)(١). وذلك أنّ قوم فرعون ذهبوا أجمعين في البحر وهووا من البحر إلى النار. وأمّا فرعون فنبذه الله وحده وألقاه بالساحل ، لينظروا إليه وليعرفوه وليكون لمن خلفه آية ولئلا يشكّ أحد في هلاكه وأنّهم كانوا اتّخذوه ربّا ، فأراهم الله إيّاه جيفة ملقاة بالساحل ، ليكون لمن خلفه عبرة (٢).
وهذا حديث أغرب وأشبه بقصص القصّاصين!
***
قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). قال الثعلبي إلى مصارعهم (٣).
وقال الفرّاء : قد كانوا في شغل من أن ينظروا ، مستورين بما اكتنفهم من البحر أن يروا فرعون وغرقه ، ولكنّه في الكلام كقولك : قد ضربت وأهلك ينظرون ، فما أتوك ولا أغاثوك ؛ يقول : فهم قريب بمرأى ومسمع.
ومثله في القرآن : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ)(٤). وليس هاهنا رؤية إنّما هو علم. فرأيت ، يكون على مذهبين : رؤية العلم ورؤية العين ؛ كما تقول : رأيت فرعون أعتى الخلق وأخبثه ، ولم تره ، إنّما هو : بلغك ؛ ففي هذا بيان (٥).
قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : وهذا الذي ذكره الفرّاء محتمل مليح ، غير أنّه مخالف لقول المفسّرين كلّهم ، فإنّهم لا يختلفون أنّ أصحاب موسى رأوا انفراق البحر والتطام أمواجه بآل فرعون حتّى غرقوا ، فلا وجه للعدول عن الظاهر مع احتماله. ولأنّهم إذا عاينوا ذلك كان أشدّ في قيام الحجّة ، وأعظم في ظهور الآية (٦).
وقال أبو جعفر الطبري : ويعني بقوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي تنظرون إلى فرق الله لكم البحر وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجّاكم فيه ، وإلى عظيم سلطانه في الّذي أراكم من طاعة البحر
__________________
(١) يونس ١٠ : ٩٠ ـ ٩٢.
(٢) قصص الأنبياء ـ الجزائري : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.
(٣) الثعلبي ١ : ١٩٤.
(٤) الفرقان ٢٥ : ٤٥.
(٥) معاني القرآن للفرّاء ١ : ٣٦.
(٦) التبيان ١ : ٢٩٩ ـ ٢٣٠.