ففي هذه الظروف نهض رجال ذووا بصيرة لا يستسيغون هذه الفكرة ، بل يرونها من حبائل الشيطان ، اُلقيت لاصطياد المستضعفين ، وسلب حرّياتهم ونهب إمكانيّاتهم ، فثاروا على الفكرة وأصحابها وناضلوا من أجل ذلك بصمود وحماس ، وكان عملهم هذا انتفاضة في وجه المجبّرة تنزيهاً لساحته سبحانه عمّا وصفه به الجاهلون ، وسكت عنه الآخرون رهباً أو رغباً ، فكان جزاؤهم القتل والصّلب والتنكيل بعد الحكم بتكفيرهم من جانب قضاة الجور ، بدعوى مروقهم عن الدّين وخروجهم على أمير المؤمنين!! عبد الملك بن مروان!! وسيفه الشاهر الحجّاج بن يوسف.
ونقدّم إليك لمحات من حياتهم ونضالهم في طريق عقيدتهم ، وأنّهم لم يكونوا يدينون بشيء ممّا رموا به إلاّ القول بأنّ الانسان مختار في حياته ، وأنّه ليس له إلاّ ما سعى ، ولم تكن عندهم فكرة التفويض التّي تعادل الشرك الخفي ، وإنّما حدثت فكرة التفويض بعدهم بين المعتزلة. وعلى ذلك فهؤلاء المسمّون بالقدريّة ظلماً وعدوانا ، أسلاف المعتزلة في الدعوة إلى حريّة الانسان ، لا في الدعوة إلى التفويض البغيض.
واستغلّت الأشاعرة ومؤلّفو الملل والنّحل لفظ « القدريّة » ، فاستعملوها في مخالفيهم تبعاً لأهل الحديث في هذه الظّروف ، فأطلقوها على كلِّ من ادّعى للانسان حريّة في العمل واختياراً في الفعل الّذي هو مناط صحّة التكليف ، ومدار بعث الرسل ، فدعاة الحريّة عندهم قدرية إمّا لاتّهامهم ـ كذباً وزوراً ـ بانكار تقدير الله وقضائه ، من باب إطلاق الشيء ( القدريّة ) وإرادة نقيضه ( انكار القدر ونفيه ) ، أو لاتّهامهم بأنّهم يقولون نحن نقدّر أعمالنا وأفعالنا و ... وسيوافيك بحث حول هذه اللفظة عند خاتمة البحث.
١ ـ معبد بن عبدالله الجهني البصري ( م ٨٠ ) : أوّل من قال بالقدر في البصرة. سمع الحديث من ابن عبّاس ، وعمران بن حصين وغيرهما وحضر يوم التحكيم ، وانتقل من البصرة إلى المدينة فنشر فيها مذهبه ، وكان صدوقاً ثقة في الحديث ومن التّابعين ،