( وَمَا أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُونَ ) (١) وما يقولون : وما أضلّنا إلاّ ربّ العالمين.
وقالت المجبّرة القدريّة : أنّ الله كلّف العباد ما لا يطيقون ، وذلك بادّعائها أنّ الله خلق الكفر في الكفّار ، ولا يُقدرهم على الإيمان ثمّ يأمرهم به ، فإذا لم يفعلوا الإيمان الّّذي لم يُقدره عليهم ، وفعلوا الكفر الّذي خلقه فيهم ، وأراده منهم ، وقضاه عليهم ، عاقبهم عذاباً دائماً.
وقالت العدليّة : معاذالله! إنّ الله لايكلّف العباد ما لايتّسعون له ( الوسع : دون الطاقة ) إذ تكليف ما لا يطاق ظلم وعبث ، وأنّه لا يظلم ولا يعبث ولو جاز أن يكلّف من لا يُقدره على الإيمان لجاز أن يكلّف من لا مال له باخراج الزّكاة ، وأن يكلّف المُقعد بالمشي والعدو وقال تعالى : ( لايكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ) (٢) فهو لايكلّف من لا يستطيع قبل الفعل أن يفعل ، قال تعالى : ( ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سبِيلاً ) ـ إلى آخره (٣) ـ فهو يأمر بالحجّ قبل الحج ، فكذلك استطاعته قبل أن يحج ، ولو لم يستطيعوا الإيمان لم يقل لهم : ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) (٤) ولو نصرهم على الإفك لم يقل : ( فَأَنّى يُؤْفَكُونَ ) (٥).
وادّعت المجبّرة أنّ الأقدار المذمومة حتم من الله ، ونفيناها عنه سبحانه ، لأنّ تقديره لا يكون باطلاً ولا متناقضاً ، فلمّا وجدنا الأشياء المتناقضة الباطلة علمنا أنّه لا يقدّرها وكفى القدريّة إذا أثبتوا ما تنازعنا فيه ونفيناه ، ولو جاز لجاز أن يكون من ينفي التنصّر نصرانيّاً ، ومن ينفي التهوّد يهوديّاً.
فإن قالوا : إنّكم أثبتّم ذلك لأنفسكم ، ومثبت الشيء لنفسه أولى ممّن ينسبه إليه ، فالجواب : أنّ التنازع بيننا لم يقع في كوننا قادرين ، فأنّما تنازعنا في أنّ الأقدار المذمومة تثبت لله سبحانه وتعالى أوينزّه عنها ، فأثبتوها إن كنتم قدريّة.
__________________
١ ـ البقرة / ٢٨٦.
٢ ـ الشعراء / ٩٩.
٣ ـ آل عمران / ٩٧.
٤ ـ التكوير / ٢٦.
٥ ـ العنكبوت / ٦١.