يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له ، بحجّة أنّه لا صلة له بي ، مع أنّه موجود خلقته بنفسي ، ونفخت فيه من روحي. فهو مصنوعي ومخلوقي الّذي قمت بخلقه ، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.
فاُطلقت الخلقة باليد وكنّى بها عن قيامه سبحانه بخلقه ، وعنايته بايجاده ، وتعليمه إيّاه أسماءه ، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد ، يقول : هذا ما بنيته بيدي ، أو ما صنعته بيدي ، أو ربّيته بيدي ويراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل ، وربّما استعان فيه بعينه وسمعه وغيرهما من الأعضاء ، لكنّه لا يذكرها ويكتفي باليد. وكأنّه سبحانه يندِّد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممت بخلقه وصنعه.
و نظير ذلك قوله سبحانه : ( أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) ( يس / ٧١ ) فالأيدي كناية عن تفرّده تعالى بخلقها ، لم يشركه أحد فيه. فهي مصنوعة لله تعالى والناس يتصرّفون فيها تصرف المّلاك كأنّها مصنوعة لهم ، فبدل أن يشكروا يكفرون بنعمته. وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي ، والمدار في الموافقة والمخالفة هو الظهور التّصديقي لا التصوّري.
قال الشريف المرتضى : « قوله تعالى : ( لما خلقت بيديّ ) » جار مجرى قوله « لما خلقت أنا » وذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم : هذا ما كسبت يداك ، وما جرت عليك يداك. وإذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضّرب من الكلام فيقولون : فلان لا تمشي قدمه ، ولا ينطق لسانه ، ولا تكتب يده ، وكذلك في الاثبات ، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل » (١).
وأمّا قوله سبحانه ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد وإِنَّا لَمُوسعونَ ) ( لذاريات / ٤٧ ) ، فالمراد من الأيدي هو القوّة والإحكام ، والقرينة عليه قوله : ( لموسعون ) وكأنّه سبحانه
____________
١ ـ امالي المرتضى : ج ١، ص ٥٦٥.