هذا ما استدلّ به القاضي تبعاً لمشايخه. ثمّ أجاب عمّا ربّما يتمسّك به المجوّز من أنّه يمكن أن نرى القديم تعالى بحاسّة سادسة من دون الحاجة إلى المقابلة. وقال : إنّه لو جاز أن يرى القديم بحاسّة سادسة لجاز أن يذاق بحاسّة سابعة ، وأن يلمس بحاسّة ثامنة ، وأن يشمّ بحاسّة تاسعة ، ويسمع بحاسّة عاشرة. تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً (١).
أقول : كان على القاضي أن يعترض أيضاً بأنّ الرؤية بحاسّة سادسة مضافاً إلى أنّه رجم بالغيب ، خروج عن الموضوع.
وأمّا السمعيّة : فقد استدلّ القاضي بقوله تعالى : ( لاتُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير ) ( الأنعام / ١٠٣ ).
قال : « وجه الدّلالة في الآية هو ما قد ثبت من أنّ الإدراك إذا قرن بالبصر ، لا يحتمل إلاّ الرؤية. وثبت أنّه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر ، ونجد في ذلك تمدّحاً راجعاً إلى ذاته. وما كان نفيه تمدّحاً راجعاً إلى ذاته كان إثباته نقصاً ، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.
ثمّ قال : فإن قيل : أليس يقولون : « أدركت ببصري حرارة الميل » فكيف يصحّ قولكم إنّ الادراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلاّ الرؤية؟ اُجيب بأنّ هذا ليس من اللّغة في شيء ، وإنّما اخترعه ابن أبي بشر الأشعري ليصحّح مذهبه به ، إذ لم يرد في كلامهم لا المنظوم ولا المنثور ».
أقول : إنّ العرب في هذا المجال تقول : « أحسست ببصري حرارة الميل » على أنّ الباء إنّما تدخل على الآلة كقولهم : « مشيت برجلي وكتبت بقلمي » والبصر ليس بآلة في إدراك الحرارة ، بل يستوي فيه البصر والسّمع ، فلو اُطلق البصر فلا يراد منه إلاّ العضو الحاسّ لا العضو الّذي يرى به.
ثمّ إنّ القاضي أفاض الكلام في دلالة الآية وردّ ما اُثير حولها من الشبهات بوجه
__________________
١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٢٤٨ ـ ٢٥٣.