مستمرّ وتغيّر دائم ، نافذين في جوهر الأشياء وطبيعة العالم المادّي ، فذوات الأشياء في تجدّد دائم وانتثار متواصل والعالم حسب هذه النظريّة أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر ، فالنّاظر الساذج يتصوّر أنّ هناك صورة منعكسة على الماء وهي باقية ثابتة والنّاظر الدقيق يقضي على أنّ الصّور تتبدّل حسب جريان الماء وسيلانه ، فهناك صور مستمرّة.
وعلى ضوء هذه النظرية ، العالم المادّي أشبه بعين نابعة من دون توقّف حتّى لحظة واحدة ، فإذا كان هذا حال العالم المادّي ، فكيف يصحّ لعاقل أن يقول إنّ العالم ، ومنه الإنسان ، إنّما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون بقائه ، مع أنّه ليس هنا أيّ بقاء وثبات ، بل العالم في حدوث بعد حدوث وزوال بعد زوال ، على وجه الاتصال والاستمرار بحيث يحسبه الساذج بقاء وهو في حال الزّوال والتبدّل والسيلان ( وتَرى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) ( النمل / ٨٨ ) (١).
الوجه الثالث : إنّ القول بحاجة الممكن إلى العلّة في حدوثه دون بقائه غفلة عن واقعيّة المعلول ونسبته إلى علّته ، فإنّ وزانه إليها وزان المعنى الحرفي بالنّسبة إلى المعنى الاسمي ، فكما أنّه ليس للأوّل الخروج عن إطار الثاني في المراحل الثلاث : التصوّر ، والدّلالة ، والتّحقق ، فهكذا المعلول ليس له الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث والبقاء.
فإذا كان هذا حال المقيس عليه فاستوضح منه حال المقيس. فإنّ المفاض منه سبحانه هو الوجود ، وهو لا يخلو عن إحدى حالتين : إمّا وجود واجب ، أو ممكن ، والأوّل خلف لأنّ المفروض كونه معلولاً ، فثبت الثاني ، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه ( أي الامكان ). فكما هو ممكن حدوثاً ممكن بقاء ، ومثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من الحالات. لأنّ الاستغناء آية انقلابه عن الامكان إلى الوجوب وعن الفقر إلى الغنى.
__________________
١ ـ البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل. لاحظ كتاب ( الله خالق الكون : ص ٥١٤ ـ ٥٦٠ ) تجد فيه بغيتك.