احتجّ القاضي على الجواز بأنّ العقاب حقّ الله تعالى على العبد ، وليس في إسقاطه إسقاط حقّ ليس من توابعه ، وإليه استبقاؤه فله إسقاطه ، كالدّين فإنّه لمّا كان حقّاً لصاحب الدّين خالصا ، ولم يتضمّن إسقاط حقّ ليس من توابعه وكان إليه استبقاؤه ، كان له أن يسقط كما أنّ له أن يستوفيه.
استدلّ البغداديّون بوجوه :
الأوّل : إنّ العقاب لطف من جهة الله تعالى واللُّطف يجب أن يكون مفعولاً بالمكلّف على أبلغ الوجوه ، ولن يكون كذلك إلاّ والعقاب واجب على الله تعالى. فمعلوم أنّ المكلّف متى علم أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه ، كان أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب الكبائر (١).
يلاحظ عليه : أنّ اللُّطف عبارة عمّا يقرِّب الإنسان من الطّاعة ويبعِّده عن المعصية ، وهذا لا يتصوّر إلاّ في دار التّكليف لا دار الجزاء ، ففي الاُولى العمل والسّعي ، وفي الاُخرى الحساب والاجتناء.
وأمّا ما ذكروه أخيراً من أنّه لو علم المكلّف أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه كان أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب الكبائر فيلاحظ عليه : أنّه لو تمّ لوجب سدّ باب التّوبة ، لإمكان أن يقال إنّ المكلّف لو علم أنّه لا تقبل توبته ، كان أقرب إلى الطّاعة ، وأبعد من المعصية.
أضف إلى ذلك إنّ للرجاء آثاراً بنّاءة في حياة الإنسان ، ولليأس آثاراً سلبيّة في الادامة على الموبقات ، ولأجل ذلك يشتمل الذِّكر الحكيم على آيات التّرغيب كما يشتمل على آيات التّرهيب.
وأخيراً نقول : إنّ القول بجواز العفو ، غير القول بحتميّته. والأثر السّلبي ـ لو سلّمنا ـ يترتّب على الثاني دون الأوّل ، والكلام في جواز العفو لا في وجوبه وحتميّته.
__________________
١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٦٤٦ و٦٤٧.