عند ذلك شعرت المعتزلة بأنّ الظّروف قاسية وأنّ السّلطة والأكثريّة الساحقة من أهل السنّة يريدون أن يقضوا عليهم ويشفوا غيظ صدورهم منهم ، ومع ذلك كلّه كانت عندهم طاقة يردّون بها عن أنفسهم الّتي رشقوا بها ويتمسّكون بكلِّ طحلب وحشيش. فقام الجاحظ أحد أُدباء المعتزلة فألّف كتاباً باسم « فضيلة المعتزلة » فأثنى عليهم وعدّ فضائلهم وكان الكتاب من حيث الصياغة والتعبير بمكان توجّهت إليه أبصار الخاصة والعامّة ، وبالتّالي ظهر عليه ردّ أو ردود ، أشهرها ما كتبه أحمد بن يحيى الراوندي ( م ٣٤٥ هـ ) الّذي كان من المعتزلة ، ثمّ رجع عنهم فألّف كتابه « فضيحة المعتزلة » ولم يبرح زمان حتّى جاء أبو الحسين عبدالرحمن بن محمّد بن عثمان الخيّاط فألّف « الانتصار » انتصر فيه للجاحظ على ابن الرّاوندي والموجود من هذه الكتب الثّلاثة هو الأخير.
ثمّ إنّ ممّا أعان على انقراضهم هو تشتّت مذاهبهم وفرقهم ، فإنّ القوم تفرّقوا إلى مدرستين ، مدرسة معتزلة بغداد ومدرسة معتزلة البصرة ، ولم تكن حتّى في نفس كلِّ واحدة منهما وحدة في التّفكير ، فصاروا فرقاً ينوف على العشرين وعند ذلك بلغوا الى درجة من الضّعف والانحلال ، وإن كان ينجم بينهم رجال مفكّرون كأبي عليّ الجبائي ( م ٣٠٣ هـ ) وولده أبي هاشم ( م ٣٢١ هـ ).
وجاءت الضّربة الأخيرة من جانب أبي الحسن الأشعريّ الّذي كان ربيب أبي عليّ الجبّائي وتلميذه ، ورجوعه عن الاعتزال بالتحاقه بأهل الحديث ، فقد رقى في البصرة يوم الجمعة كرسيّاً ونادى بأعلى صوته : « من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا اعرّفه بنفسي أنا فلان بن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن ، وأنّ الله لا تراه الأبصار ، وأنّ أفعال الشّرّ أنا أفعلها وأنا تائب مقلع ، معتقد للردّ على المعتزلة ، مخرج لفضائحهم ومعايبهم » (١).
فقد كان لرجوع من كان من أكابر تلاميذ أبي عليّ الجبّائي أثر بارز في النّفوس
__________________
١ ـ فهرس ابن النديم ، الفن الثالث من المقالة الخامسة ص ٢٣١، ووفيات الاعيان ، ج ٣، ص ٢٧٥.