يعطون للعقل قسطاً أوفر ويقدِّمونه على النّصوص الواردة في الصِّحاح والمسانيد عن الصحابة والتابعين. مثلاً إنّ النّصوص النبويّة الّتي يرويها المحدِّثون من أهل السنّة تركِّز على التجسيم والرؤية والتشبيه والجبر وسلب الاختيار عن الإنسان ، فمعنى كون الفرقة فرقة سنّية ، تكريم هذه الأُصول والأحاديث وعدم الخروج عن خطوطها ، ولكنّهم مع الانتماء واجهوا هذه النّصوص بشدّة وقسوة ، فأخذوا يردّونها ويضربونها عرض الجدار ، وهذان لا يجتمعان.
فكون الإنسان مقتفياً لمذهب أهل السنّة لا ينفكّ عن اقتفاء هذه الآثار وعدم التخطّي عنها ، والثورة على هذه النّصوص، إمحاء لمذهب السنّة وهدم لأُسسه ، فكيف يجتمعان. فلازم ذلك أنّهم صاروا يتبنّون مبدأين متناقضين يضربون بواحد منهما المبدأ الآخر.
فالحقّ أنّ التسنّن بالمعنى الصحيح هو ما كان عليه أحمد بن حنبل ونظراؤه من الجمود على الظواهر ، والأخذ في الصفات الخبريّة بالمعنى الحرفي ، ورفض العقل والبرهان في مجالي العقائد والأحكام ، وترك التفكير والتعقّل في المعارف ، وهذا هو الخطّ السنّي الحقيقيّ الّذي عليه وهّابية اليوم في نجد والحجاز، فمن أراد الانتماء إلى هذا المذهب ، يجب أن يسلك هذا الطريق ويترك التفكّر والبرهنة في جميع المجالات ، ومن جمع بينهما فقد جمع بين الضدّين والنقيضين.
إنّا نرى أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعريّ بعد ما تاب والتحق بالحنابلة ، وحاول إثبات عقائد أهل الحديث بالبرهنة والدليل ، قابله إنكار شديد من قبل الحنابلة ، ولأجل ذلك لم يترجموه في طبقاتهم ولا عدّوه من أنفسهم ، بل استنكر « البر بهاري » رئيس حنابلة بغداد طريقته بأنّه يتجاوز في طرح الأُصول والعقائد عن النّصوص ويدخل في باب الدليل والبرهان ، وقد صار ذلك سبباً لحدوث مخاصمة شديدة بين الحنابلة والأشاعرة على مدى القرون.
وقد عرفت في الجزء الثاني شكوى الأشاعرة من المتوسّمين بالحنبليّة ، وما هذا إلاّ