لكن الإنصاف فيه أيضاً أنّ المصلحة في المنشأ لا في الإنشاء ، فإنّ اللون الخاصّ مثلاً وإن لم يكن ذا مصلحة بعنوان الأوّلي ( لعدم كونه قيداً في المأمور به في إبتداء الأمر ) لكنّه صار ذا مصلحة بعنوان ثانوي وهو سدّ باب الأعذار الواهيّة واللجاج من المكلّفين في مقابل الأوامر الإلهيّة.
ثالثها : بعض الأوامر الواردة في مقام التقيّة ، حيث إنّ الإمام عليهالسلام ينشأ الوجوب في ذلك المقام ، مع أنّه لا وجوب في الواقع ولا مصلحة في الفعل المتعلّق للأمر الذي صدر تقيّة ، وإنّما المصلحة في نفس الإنشاء.
والصحيح خروج هذا القسم عن محلّ البحث أيضاً ، لأنّ محلّه هو الأوامر الجدّية ، أي البحث في المقام في أنّه هل يوجد في الشريعة قانون جدّي كانت المصلحة فيه في نفس الإنشاء ، أو لا؟ والأوامر الصادرة تقيّة ليست جدّية ، ولذا يقال : إنّ أصالة الجدّ فيها ساقطة.
هذا كلّه في البراءة العقليّة.
وأمّا البراءة النقلية فالمحقّق الخراساني رحمهالله تبعاً للمشهور ذهب إلى جريانها ، لأنّ عموم حديث الرفع قاضٍ برفع جزئية ما شكّ في جزئيّته ، ويعيّن الواجب في الأقلّ.
ثمّ يستشكل على نفسه بما حاصله : أنّ البراءة تجري فيما تناله يد الوضع والرفع التشريعيين ، وجزئيّة السورة المجهولة مثلاً ليست بمجعولة شرعاً ، لأنّها ليست أثراً شرعيّاً ( كحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ) وممّا يترتّب عليها أثر شرعي ( كالشكّ في الالتزام النفساني المجرّد عن اللفظ في باب النذر الذي يكون سبباً لوجوب الوفاء شرعاً ).
ويجيب عنه : بأنّ الجزئيّة وإن لم تكن مجعولة لكونها أمراً انتزاعياً ، إلاّ أنّ منشأ انتزاعها وهو الأمر مجعول شرعي ، وهذا كافٍ في صحّة جريان البراءة فيها.
ثمّ إستشكل ثانياً : بأنّه بعد جريان البراءة في الأمر بالأكثر ( الذي هو منشأ انتزاع الجزئيّة ) لا يبقى أمر يتعلّق بالأقل لأنّ متعلّق الأمر هو الكلّ لا الجزء ، وحينئذٍ لا وجه لجريان البراءة وتعيّن الواجب في الأقل.
وأجاب عنه أيضاً : بأنّ الأمر بالأقلّ يثبت بالجمع بين أدلّة الاجزاء وأدلّة البراءة الشرعيّة ، حيث إنّ وجوب الأقل معلوم بنفس أدلّة الاجزاء ، ووجوب الأكثر منفي بالبراءة