الأسباب وسبب في تأثير عمل العبد في ضلالته ، فهو الذي جعل العمل السيّيء والذنوب الكبار سبباً للضلالة عن طريق الحقّ ، فيصحّ إسناده إليه تعالى حقيقة كما يصحّ إسناده كذلك إلى الفاعل بلا واسطة ، وهذا نظير من قتل نفسه بشرب السمّ حيث يصحّ إسناد القتل إليه حقيقة لأنّه شرب السمّ باختياره ، وإلى الباري تعالى كذلك لأنّه خلق السمّ بحيث يوجب القتل.
ولا يخفى أنّ الإسناد في الوجوه الثلاثة الاول مجازاً ، فلا وجه للذهاب إليها مع إمكان حفظ الكلمة على معناه الحقيقي بالوجه الأخير ، كما أنّه كذلك في الآيات المشابهة التي استند الاضلال فيها إلى الله تعالى.
منها : قوله تعالى : ( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) (١).
ومنها : قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ) (٢) فاستناد الاضلال إليه تعالى أمر مأنوس في القرآن الكريم ، ولا ريب في عدم مجازيته ، لأنّ كلّ فعل يصدر من العباد يصحّ إسناده إليه تعالى حقيقة « لأنّه المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه أقدرك » كما ورد في حديث الإحتجاج (٣).
وبالجملة الآية تدلّ على عدم اضلال الله تعالى للعباد حتّى يبيّن لهم الحلال والحرام لقوله تعالى فيها : ( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ) وبما أنّ الاضلال منشأ للعذاب بل هو نوع من العذاب الإلهي فدلالة الآية على عدم العذاب من دون البيان تكون بالأولوية أو بإلغاء الخصوصيّة.
وممّا ذكرنا يظهر الجواب عمّا أورده بعض على دلالة الآية من أنّها تدلّ على نفي العذاب الدنيوي لا الاخروي ، وذلك لأنّ دلالتها على نفي العذاب الاخروي ـ وهو عذاب تطول مدّته ويدوم بقاؤه ـ بطريق أولى كما مرّ ذلك بالنسبة إلى آية البعث.
بقي هنا شيء :
وهو أنّ جميع هذه الآيات إنّما تأسّس لنا الأصل الأوّلي وتدلّ على عدم العذاب بلا بيان ،
__________________
(١) سورة إبراهيم : الآية ٢٧.
(٢) سورة المؤمن : الآية ٣٤.
(٣) راجع تفسير الميزان : ج ١ ، ص ١٠١.