موارد الشبهات البدوية أيضاً به ، لما مرّ هناك من أنّ مقاصد المولى لا تكون أقلّ أهمية من مقاصد العبد نفسه ، فكما أنّ العقل يحكم بالاحتياط فيما إذا احتمل العبد كون هذا الطعام مثلاً مضرّاً ضرراً معتدّاً به حفظاً لمقاصده الشخصية ، كذلك يحكم به فيما إذا احتمل كون هذا الشيء مبغوضاً لمولاه.
وعلى هذا فالاصول العقليّة إثنان لا ثلاثة ، نعم إنّ بناء العقلاء قام على البراءة ، فلا يؤاخذون العبيد والمأمورين بشيء قبل البيان الواصل إليهم ، وقد أمضاه الشارع أيضاً.
ولكن لا يخفى أنّه ليس فارقاً فيما هو المهمّ في المقام ، لأنّ موضوع البراءة سواء كانت عقليّة أو عقلانيّة هو عدم البيان ، وبعد قيام الاستصحاب يتبدّل عدم البيان إلى البيان.
وكيف كان ، لا إشكال في أنّ الاستصحاب وارد على الاصول العقليّة لأنّ موضوعها يرتفع به ، أمّا البراءة العقليّة ( أو العقلائيّة ) فلما عرفت آنفاً ، وأمّا الاحتياط العقلي فلأنّ موضعه عدم الأمن من العقوبة فيما إذا علم إجمالاً بخمريّة أحد الإنائين مثلاً ، ومع استصحاب خليّة أحدهما ينحلّ العلم الإجمالي من أصله ويحصل الأمن من العقاب ، وهكذا في التخيير العقلي ، فإنّ موضوعه عدم الترجيح بين المحذورين والاستصحاب مرجّح.
هذا في الاصول العقليّة.
وأمّا الاصول الشرعيّة المنحصرة في البراءة الشرعيّة فقد وقع النزاع في وجه تقديم الاستصحاب عليها فذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى أنّ الاستصحاب وارد (١) على البراءة الشرعيّة بمعنى كونه رافعاً لموضوعها ( أي الشكّ ) بعد قيامه.
وقال في توضيح مرامه ما حاصله : إن قلت : هذا لو أخذ بدليل الاستصحاب في مورد الاصول ، ولكن لماذا لا يؤخذ بدليلها ويلزم الأخذ بدليله؟
قلنا : لأنّه لو أخذنا بدليل الاستصحاب لم يلزم منه شيء سوى ارتفاع موضوع سائر الاصول بسببه ، وهذا ليس بمحذور ، وأمّا لو أخذنا بدليل البراءة الشرعيّة دون الاستصحاب فيلزم منه إمّا التخصيص بلا مخصّص إن رفعنا اليد عن الاستصحاب الجاري في مورد البراءة الشرعيّة بدون مخصّص لدليله ، وإمّا التخصيص على وجه دائر إن رفعنا اليد عنه لأجل كون
__________________
(١) إنّه لم يعبّر بالورود في كلامه ، ولكنّه حيث قال : « فالنسبة بينها وبينه هى بعينها النسبة بين الأمارة وبينه » وكان مبناه هناك الورود فليكن هنا أيضاً كذلك.