قيل : إن العرب لمّا قوي في أنفسها أمر المفعول حتى كاد يلحق عندها برتبة الفاعل ، وحتى قال سيبويه (١) فيهما : وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم ، خصوا المفعول إذا أسند الفعل إليه بضربين من الصنعة ، أحدهما : تغيير صيغة المثال مسندا إلى المفعول ، عن صورته مسندا إلى الفاعل ، والعدة واحدة ، وذلك نحو : ضرب زيد ، وضرب ، وقتل وأكرم وأكرم ودحرج ودحرج ، وقتل وقتل ، والآخر : أنهم لم يرضوا ولم يقنعوا بهذا القدر من التغيير حتى تجاوزوه ، إلى أن غيروا عدة الحروف مع ضم أوله ، كما غيروا في الأول الصورة والصيغة وحدها وذلك قولهم : أحببته ، وحب ، وأزكمه الله وزكم ، وأضأده وضئد ، وأملأه وملئ.
قال أبو علي : فهذا يدلك على تمكن المفعول عندهم وتقدم حاله في أنفسهم إذا أفردوه بأن صاغوا الفعل له صيغة مخالفة لصيغته وهو للفاعل.
وهذا ضرب من تدريج اللغة ، ألا ترى أنهم لما غيروا الصيغة والعدة واحدة في نحو ضرب وضرب ، وشرب وشرب تدرجوا من ذلك إلى أن غيروا الصيغة مع نقصان العدة ، نحو أزكمه الله وزكم ، وآرضه الله وأرض ، فهذا كقولهم في حنيفة حنفي ، لما حذفوا هاء حنيفة حذفوا أيضا ياءها ، ولما لم يكن في حنيف تاء تحذف فتحذف لها الياء صحت الياء فقالوا فيه : حنيفي ، وهذا الموضع هو الذي دعا ثعلبا في كتاب فصيحه أن أفرد له بابا فقال : هذا فعل بضمّ الفاء نحو قولك : عنيت بحاجتك وبقية الباب ، إنما غرضه فيه إيراد الأفعال المسندة إلى المفعول ولا تسند إلى الفاعل في اللغة الفصيحة ، ألا ترى أنهم يقولون : نخي زيد من النخوة ، ولا يقال : نخاه كذا ، ويقولون : امتقع لونه ، ولا امتقعه كذا ويقولون : انقطع بالرجل ولا يقولون انقطع به كذا ، فلهذا جاء بهذا الباب ، أي ليريك أفعالا خصّت بالإسناد إلى المفعول دون الفاعل ، كما خصّت أفعال بالإسناد إلى الفاعل دون المفعول نحو : قام زيد ، وقعد جعفر وذهب وانطلق ، ولو كان غرضه أن يريك صور ما لم يسمّ فاعله مجملا غير مفصل على ما ذكرنا لأورد فيه نحو : ضرب وركب وأكرم واستقصي وهذا يكاد يكون إلى ما لا نهاية له ، فاعرف هذا الغرض فإنه أشرف من حفظ مائة ورقة لغة.
ونظير مجيء اسم المفعول هنا على حذف الزيادة نحو : أحببته فهو محبوب ـ مجيء اسم الفاعل على حذفها أيضا وذلك نحو قولهم : أورس الرمث فهو وارس وأيفع فهو يافع وأبقل فهو باقل. قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢]
__________________
(١) انظر الكتاب (١ / ٦٩).