وذلك أن العرف والعادة إذا أريد الاقتصار على أحد الجائزين أن يكون ذلك المقتصر عليه هو أقيسهما فيه ، ألا تراك تقول في تحقير أسود وجدول أسيّد وجديّل بالقلب ، وتجيز من بعد الإظهار وأن تقول : أسيود ، وجديول ، فإذا صرت إلى باب مقام وعجوز اقتصرت على الإعلال ألبتة فقلت : مقيّم وعجيّز ، فأوجبت أقوى القياسين لا أضعفهما وكذلك نظائره.
فإن قلت : فقد تقول : فيها رجل قائم ، وتجيز فيه النصب ، فتقول : فيها رجل قائما ، فإذا قدّمت أوجبت أضعف الجائزين فكذلك أيضا يقتصر في هذه الأفعال نحو ، أكرمه وأشعره على أضعف الجائزين وهو الضم.
قيل : هذا إبعاد في التشبيه وذلك أنك لم توجب النصب في (قائم) من قولك : فيها رجل قائما ، و (قائما) هذا متأخر عن رجل في مكانه في حال الرفع وإنما اقتصرت على النصب فيه لما لم يجز فيه الرفع أو لم يقو ، فجعلت أضعف الجائزين واجبا ضرورة لا اختيارا. وليس كذلك كرمته أكرمه لأنه لم ينقص شيء عن موضعه ولم يقدم ولم يؤخر ، فلو قيل : كرمته ، أكرمه لكان كشتمته أشتمه وهزمته أهزمه.
وكذلك القول في نحو قولنا : ما جاءني إلا زيدا أحد في إيجاب نصبه ، وقد كان النصب لو تأخر أضعف الجائزين فيه إذا قلت : ما جاءني أحد إلا زيدا ، الحال فيهما واحدة ، وذلك أنك لم تجد مع تقديم المستثنى ما تبدله منه عدلت به ـ للضرورة ـ إلى النصب الذي كان جائزا فيه متأخرا. هذا كنصب (فيها قائما رجل) البتة ، والجواب عنهما واحد.
وإذا كان الأمر كذلك وجب البحث عن علة مجيء هذا الباب في الصحيح كله بالضم وعلته عندي أن هذا موضع معناه الاعتلاء والغلبة ، فدخله لذلك معنى الطبيعة التي تغلب ولا تغلب وتلازم ولا تفارق ، وتلك الأفعال بابها : فعل يفعل ، كفقه يفقه إذا أجاد الفقه ، وعلم يعلم إذا أجاد العلم ، وروينا عن أحمد بن يحيى عن الكوفيين : ضربت اليد يده ، على وجه المبالغة.
وكذلك نعتقد نحن أيضا في الفعل المبني منه فعل التعجب أنه قد نقل عن فعل وفعل إلى فعل ، حتى صارت صفة التمكن والتقدم ، ثم بني منه الفعل ، فقيل : ما أفعله نحو ما أشعره ، إنما هو من شعر ، وقد حكاها أيضا أبو زيد ، وكذلك ما أقتله وأكفره : هو عندنا من قتل وكفر تقديرا ، وإن لم يظهر إلى اللفظ استعمالا ، فلما كان قولهم كارمني فكرمته أكرمه وبابه صائرا إلى معنى فعلت أفعل أتاه الضم من هناك فاعرفه.