فالجواب أن يقال : إن الأسماء لما كانت تعتورها المعاني وتكون فاعلة ومفعولة ومضافة ومضافا إليها ، ولم يكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني ، بل كانت مشتركة ، جعلت حركات الإعراب فيها تنبئ عن هذه المعاني فقالوا : ضرب زيد عمرا ، فدلّوا برفع زيد على أن الفعل له وبنصب عمرو على أن الفعل واقع به وقالوا : (ضرب زيد) فدلّوا بتغيير أول الفعل ورفع زيد على أن الفعل ما لم يسمّ فاعله ، وأن المفعول قد ناب منابه ، وقالوا : (هذا غلام زيد) ، فدلّوا بخفض (زيد) على إضافة الغلام إليه ، وكذلك سائر المعاني جعلوا هذه الحركات دلائل عليها ليتّسعوا في كلامهم ويقدموا الفاعل إذا أرادوا ذلك أو المفعول عند الحاجة إلى تقديمه ، وتكون الحركات دالة على المعاني ، هذا قول جميع النحويين إلا أبا علي قطربا فإنه عاب عليهم هذا الاعتلال وقال : لم يعرب الكلام للدلالة على المعاني والفرق بين بعضها وبعض ، قد نجد في كلامهم أسماء متفقة في الإعراب مختلفة المعاني ، وأسماء مختلفة الإعراب متفقة المعاني.
فمما اتّفق إعرابه واختلف معناه قولك : إن زيدا أخوك ، ولعلّ زيدا أخوك ، وكأن زيدا أخوك ، اتّفق إعرابه واختلف معناه.
ومما اختلف إعرابه واتفق معناه ، قولك : ما زيد قائما وما زيد بقائم ، ثم اختلف إعرابه واتفق معناه ، ومثله : ما رأيته منذ يومين ومنذ يومان ، ولا مال عندك ولا مال عندك ، وما في الدار أحد إلّا زيد ، وما في الدار أحد إلا زيدا. ومثله : إن القوم كلهم ذاهبون ، وإن القوم كلّهم ذاهبون ، ومثله : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٥٤] و (إن الأمر كلّه لله) قرئ (١) بالوجهين جميعا ، ومثله : ليس زيد بجبان ولا بخيلا ولا بخيل ، ومثل هذا كثير جدا مما اتفق إعرابه واختلف معناه ، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه. قال : فلو كان الإعراب إنما دخل الكلام للفرق بين المعاني لوجب أن يكون لكلّ معنى إعراب يدلّ عليه لا يزول إلا بزواله.
قال قطرب : وإنما أعربت العرب كلامها ، لأن الاسم في حال الوقف يلزمه السكون للوقف ، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا ، لكان يلزمه الإسكان في الوقف والوصل ، فكانوا يبطئون عند الإدراج ، فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلنا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام ، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرّك وساكن ولم يجمعوا بين ساكنين في حشو الكلمة ولا في حشو بيت ولا بين أربعة أحرف متحركة ويستعجلون وتذهب الصلة من كلامهم ، فجعلوا الحركة عقيب الإسكان.
__________________
(١) انظر تيسير الداني (٧٦) قراءة أبي عمرو برفع اللام والباقون بنصبها.