الحصار والضر وعدنا بالنصر وأنه يتوجه إليه ويرحّل الفرنج عنها ، وأنزلنا في مكان بماردين وجعلنا نطالبه بما وعد وهو يدافعنا من يوم إلى يوم ، وكان آخر كلامه : خلوهم إذا أخذوا حلب عدت وأخذتها ، فقلنا في أنفسنا ما هذا إلا فرصة ، وقلنا : لا تفعل ولا تسلم المسلمين إلى الفرنج فقال : وكيف أقدر على لقائهم في هذا الوقت ؟ فقال له القاضي أبو غانم : وأيش هم حتى لا نقدر عليهم ونحن أهل البلد إذا وصلت إلينا نكفيك أمرهم ، قال القاضي أبو الفضل : فكتبت كتابا من حلب إلى والدي أبي غانم أخبره بما حل بأهل حلب من الضرر وأنه قد آل الأمر بهم إلى أكل القطاط والكلاب والميتة ، فوقع الكتاب في أيدي تمرتاش وشق عليه وغضب وقال : انظروا إلى جلد هؤلاء الفعلة الصنعة قد بلغ الأمر بهم إلى هذه الحالة وهم يكتمون ذلك ويتجلدون ويغرونني ويقولون : إذا وصلت إلينا نكفيك أمرهم ، قال القاضي غانم : فأمر تمرتاش بأن يوكل علينا من يحفظنا خوفا أن ننفصل عنه إلى غيره ، فأعملنا الحيلة في الهرب إلى الموصل وأن نمضي إلى البرسقي ونستصرخ به ونستنجده ، فتحدثنا مع من يهربنا ، وكان للمنزل الذي كنا فيه باب يصر صريرا عظيما إذا فتح أو أغلق ، فأمرنا بعض أصحابنا أن يطرح في صائر الباب زيتا ويعالجه ليفتح عند الحاجة ولا يعلم الجماعة الموكلون بنا إذا فتحناه بما نحن فيه ، وواعدنا الغلمان إذا جن الليل أن يسرحوا الدواب ويأتونا بها ونخرج خفية في جوف الليل ونركب ونمضي. قال : وكان الزمان شتاء والثلج كثير على الأرض.
قال القاضي أبو غانم : فلما نام الموكلون بنا جاء الغلمان بأسرهم إلا غلامي ياقوت وأخبر غلمان رفاقي أن قيد الدابة تعسر عليه فتحه وامتنع كسره ، فضاقت صدورنا لذلك وقلت لأصحابي : قوموا أنتم وانتهزوا الفرصة ولا تنتظروني ، فقاموا وركبوا والدليل معهم يدلهم على الطريق ولم يعلم الموكلون بنا بشيء مما نحن فيه ، وبقيت وحدي من بينهم مفكرا لا يأخذني نوم ، حتى كان وقت السحر فجاءني غلامي ياقوت بالدابة وقال : الساعة انكسر القيد ، قال : فقمت وركبت لا أعرف الطريق ومشيت في الثلج أقصد الجهة التي أقصدها ، قال : فما طلع الصبح إلا أنا وأصحابي الذين سبقوني في مكان واحد وقد ساروا من أول الليل وسرت من آخره ، وكانوا قد ضلوا عن الطريق ، فنزلنا جميعا وصلينا الصبح وركبنا وجثثنا دوابنا وأعملنا السير حتى وصلنا الموصل فوجدنا البرسقي مريضا وهو يسقى