قال ابن العديم : وكان أتابك جبارا عظيما ذا هيبة وسطوة ، وقيل إن الشاووش كان يصيح خارج باب العراق وهو نازل من القلعة ، وكان إذا ركب مشى العسكر خلفه كأنه بين خيطين مخافة أن يدوس العسكر شيئا من الزرع ولا يجسر أحد من هيبته أن يدوس عرقا منه ولا يمشي فرسه فيه ، ولا يجسر أحد من أجناده أن يأخذ لفلاح علاقة تبن إلا بثمنها أو بخط من الديوان إلى رئيس القرية ، وإن تعدى أحد صلبه ، وكان يقول : ما يتفق أن يكون أكثر من ظالم واحد ، يعني نفسه ، فعمرت البلاد في أيامه بعد خرابها وأمنت بعد خوفها ، وكان لا يبقي على مفسد وأوصى ولاته وعماله بأهل حران ، ونهى عن الكلف والسخر والتثقيل على الرعية ، هذا ما حكاه أهل حران عنه. وأما فلاحو حلب فإنهم يذكرون عنه ضد ذلك ، وكانت الأسعار في السنة التي توفي فيها رخية جدا ، الحنطة ست مكايك بدينار ، والشعير اثنا عشر مكوكا بدينار ، والعدس أربع مكايك بدينار ، والجلبان خمسة مكايك بدينار ، والقطن ستون رطلا بدينار ، والدينار هو الذي جعله أتابك دينار الغلة ، وقدره خمسون قرطيسا برسا ( برشا ) وذلك لقلة العالم.
ولما قتل افترقت عساكره ، فأخذ عسكر حلب ولده نور الدين أبا القاسم محمود بن زنكي وطلبوه إلى حلب فملكوه إياها ، وأخذ نور الدين خاتمه من إصبعه قبل مسيره إلى حلب ، وسار أجناد الموصل بسيف الدين غازي إلى الموصل وملكها وبقي أتابك وحده ، فخرج أهل الرافقة فغسلوه بقحف جرة ودفنوه على باب مشهد علي عليهالسلام في جوار الشهداء من الصحابة رضوان الله عليهم وبنى بنوه قبة فهي باقية إلى الآن (١).
قال في الروضتين : ( فصل ) في بعض سيرة الشهيد أتابك زنكي ، وكانت من أحسن سير الملوك ، وكانت رعيته في أمن شامل يعجز القوي عن التعدي على الضعيف.
قال ابن الأثير : حدثني والدي قال : قدم الشهيد إلينا بجزيرة ابن عمر في بعض السنين وكان زمن الشتاء ، فنزل بالقلعة ونزل العسكر في الخيام ، وكان في جملة أمرائه الأمير عز الدين أبو بكر الدبيسي وهو من أكابر أمرائه ومن ذوي الرأي عنده ، فدخل الدبيسي البلد ونزل بدار إنسان يهودي وأخرجه منها ، فاستغاث اليهودي إلى الشهيد وهو راكب
__________________
(١) إلى هنا آخر المنتخبات من بغية الطلب في تاريخ حلب للصاحب كمال الدين عمر بن أحمد المشهور بابن العديم الحلبي المطبوعة في باريس مع ترجمتها بالإفرنسية.