وصل إلى البلد فخرج إلى لقائه فأكرمه ودخل معه البلد وقال : المولى أتابك يسلم عليك ويريد أن يعلي قدرك ويرفع منزلتك ويسلم إليك قلعة حلب ويوليك جميع البلاد الشامية لتكون هناك مثل نصير الدين فتجهز وتحدر مالك في الماء إلى الموصل وتسير إلى خدمته ، ففرح ذلك المسكين فلم يترك له قليلا ولا كثيرا إلا نقله إلى السفن ليحدرها إلى الموصل في دجلة ، فحين فرغ من جميع ذلك أخذه الصلاح وأمضى فيه ما أمر به وأخذ جميع ماله ، فلم يتجاسر بعده أحد على سلوك شيء من أفعاله.
قال : وأما صدقاته فقد كان يتصدق كل جمعة بمائة دينار أميري ظاهرا ويتصدق فيما عداه من الأيام سرا مع من يثق به. وركب يوما فعثرت به دابته فكاد يسقط عنها فاستدعى أميرا كان معه فقال له كلاما لم يفهمه ولم يتجاسر على أن يستفهمه منه ، فعاد عنه إلى بيته وودع أهله عازما على الهرب ، فقالت له زوجته : ما ذنبك وما حملك على هذا الهرب ؟ فذكر لها الحال فقالت له : إن نصير الدين له بك عناية فاذكر له قصتك وافعل ما يأمرك به ، فقال : أخاف أن يمنعني من الهرب فأهلك ، فلم تزل زوجته تراجعه وتقوي عزمه فعرّف النصير حاله ، فضحك منه وقال له : خذ هذه الصرة الدنانير واحملها إليه فهي التي أراد فقال : الله الله في دمي ونفسي ، فقال : لا بأس عليك فإنه ما أراد غير هذه الصرة ، فحملها إليه ، فحين رآه قال : أمعك شيء ؟ قال : نعم ، فأمره أن يتصدق به ، فلما فرغ من الصدقة قصد النصير وشكره وقال : من أين علمت أنه أراد الصرة ؟ فقال : إنه يتصدق في هذا اليوم بمثل هذا القدر يرسل إلى من يأخذه من الليل وفي يومنا هذا لم يأخذه ، ثم بلغني أن دابته عثرت به حتى كاد يسقط إلى الأرض وأرسلك إلي فعلمت أنه ذكر الصدقة.
قال : وحكي لي من شدة هيبته ما هو أشد من هذا ، قال والدي : خرج يوما الشهيد من القلعة بالجزيرة من السر خلوة وملاح له نائم فأيقظه بعض الجاندارية وقال له : اقعد ، فحين رأى الشهيد سقط إلى الأرض فحركوه فوجدوه ميتا.
قال : وكان الشهيد قليل التلون والتنقل بطيء الملل والتغير شديد العزم ، لم يتغير على أحد من أصحابه مذ ملك إلى أن قتل إلا بذنب يوجب التغير ، والأمراء والمقدمون الذين كانوا معه أولاهم الذين بقوا أخيرا من سلم منهم من الموت ، فلذا كانوا ينصحونه