وكان لا يمكن أحدا من خدمه من مفارقة بلاده ويقول : إن البلاد كبستان عليه سياج فمن هو خارج السياج يهاب الدخول ، فإذا خرج منها من يدل على عورتها ويطمع العدو فيها زالت الهيبة وتطرق الخصوم إليها.
قال : ومن صائب رأيه وجيده أن سير طائفة من التركمان الأيوانية مع الأمير اليارق إلى الشام وأسكنهم بولاية حلب وأمرهم بجهاد الفرنج وملكهم كل ما استنقذوه من البلاد للفرنج وجعله ملكا لهم ، فكانوا يغادون الفرنج بالقتال ويراوحونهم ، وأخذوا كثيرا من السواد وسدوا ذلك الثغر العظيم ، ولم يزل جميع ما فتحوه في أيديهم إلى نحو سنة ستمائة.
قال : ومن آرائه أنه لما اجتمع له الأموال الكثيرة أودع بعضها بالموصل وبعضها بسنجار وبعضها بحلب وقال : إن جرى على بعض هذه الجهات خرق أو حيل بيني وبينه استعنت على سد الخرق بالمال في غيره.
قال : وأما شجاعته وإقدامه فإليه النهاية فيهما وبه كانت تضرب الأمثال ، ويكفي في معرفة ذلك جملة أن ولايته أحدق بها الأعداء والمنازعون من كل جانب : الخليفة المسترشد والسلطان مسعود وأصحاب أرمينية وأعمالها بيت سكمان وركن الدولة داود صاحب حصن كيفا وابن عمه صاحب ماردين ثم الفرنج ثم صاحب دمشق ، وكان ينتصف منهم ويغزو كلا منهم في عقر داره ويفتح بلادهم ما عدا السلطان مسعودا فإنه كان لا يباشر قصده بل يحمل أصحاب الأطراف على الخروج عليه ، فإذا فعلوا عاد السلطان محتاجا إليه وطلب منه أن يجمعهم على طاعته فيصير كالحاكم على الجميع ، وكل يداريه ويخضع له ويطلب منه ما تستقر القواعد على يده.
قال : وأما غيرته فكانت شديدة ولا سيما على نساء الأجناد فإن التعرض إليهن كان من الذنوب التي لا يغفرها ، وكان يقول : إن جندي لا يفارقونني في أسفاري وقلما يقيمون عند أهلهم فإن نحن لم نمنع من التعرض إلى حرمهم هلكن وفسدن. قال ابن الأثير : وكان قد أقام بقلعة الجزيرة دزدارا اسمه نور الدين حسن البربطي وكان من خواصه وأقرب الناس إليه ، وكان غير مرضي السيرة ، فبلغه عنه أنه يتعرض للحرم ، فأمر حاجبه صلاح الدين الباغيسياني أن يسير مجدا ويدخل الجزيرة فإذا دخلها أخذ البربطي وقطع ذكره وقلع عينيه عقوبة لنظره بهما إلى الحريم ثم يصلبه ، فسار الصلاح مجدا فلم يشعر البربطي إلا وقد