على صورهم التي فارقوا الدنيا عليها وهيآتهم ، فعلى ما فارقوا الحياة عليه من ضلالهم وعماهم ، فمن فارق دنياه وهو أعمى في بصره ، بعث كذلك عند حشره ، وكذلك يبعث الأبكم وهو الأخرس اللسان ، وكذلك الأصم من صمم الآذان (١) ، فكل يبعث ويحشر على ما كان عليه في دنياه من الأحوال ، وكذلك يبعثون على ما كانوا عليه في الدنيا من الهدى والضلال ، وليس تأويل : (عَلى وُجُوهِهِمْ) ـ إن شاء الله ـ ما يذهب إليه أهل الجهالات ، من تبديل الله في يوم القيامة للخلق والهيئات ، التي كانوا عليها في الدنيا بديا ، وكيف يتوهمون صما وبكما وعميا!؟ والله يقول سبحانه في ذلك اليوم : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج : ١٠ ـ ١١] ، هو : يرونهم ، وكيف يتوهمون صما بكما خرسا!؟ وهم يقولون : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) [الكهف : ٤٩] ، وكيف يتوهمون ذلك وهم يقولون في يوم الحساب : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) [السجدة : ١٢]؟! فكفى بما بيّن الله من هذا ومثله بيانا لقوم يعقلون. على أن الأمر في ذلك ليس كما يتوهم الجهلة ولا كما يظنون.
٧٧ ـ [وسئل : عن قوله سبحانه : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦]؟
فقال :] (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) تأويله : فرقناه قطعا ، وفرقنا [ه] وجعلنا [ه] مفرقا (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء : ١٠٦] وهو على مهل وبمكث ، وتأويل (نَزَّلْناهُ) [الإسراء : ١٠٦] فهو قليلا قليلا ، كذلك يذكر ـ والله أعلم ـ أن جبريل صلى الله عليه كان يعلّم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما علمه من القرآن خمس آيات ، خمس آيات (٢) ، لما أراد الله إن شاء الله بذلك لفؤاده من الثبات ، كما قال الله سبحانه : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) [الفرقان : ٣٢] تأويله : ونزلناه تنزيلا ، والتنزيل ، هو الإبانة والتفصيل.
__________________
(١) في المخطوط : الأذن. ولعل الصواب ما أثبت لتوافق ما قبلها من السجعة.
(٢) أخرجه الحاكم ٢ / ٦٦٧ (٤٢١٦) ، والنسائي في الكبرى ٥ / ٧ (٧٩٩١) ، والطبراني في الكبير ١٢ / ٣٢ (١٢٣٨١) ، والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر ، وابن عساكر من طريق أبي نضرة. أفاده في الدر المنثور ٥ / ٣٤٦.