ولا ترى لك حقّا ؛ يشير إلى أن قلب الفتوّة وإنسان عينها أن تغيب بشهادة نقصك وعيبك عن فضلك ، وتغيب بشهادة حقوق الخلق عليك عن شهادة حقوقك عليهم ، والنّاس فى هذا على مراتب ، فأشرفهم أهل هذه المرتبة ، وأخسّهم عكسهم.
وأوّل الفتوّة ترك الخصومة باللسان / والقلب فى حقّ نفسه لا فى حقّ ربّه ، والتغافل عن الزلّات الّتى لم يوجب الشرع أخذه بها ، ونسيان أذيّة من نالك بأذى ليصفو قلبك له ، ونسيانك إحسانك إلى من أحسنت إليه حتّى كأنّه لم يصدر منك إحسان. وهذا أكمل ممّا قبله ، وفيه يقول :
ينسى صنائعه والله يظهرها |
|
إنّ الجميل إذا أخفيته ظهرا |
وثانيها : أن تقرّب من يبعدك ، وتعتذر إلى من يجنى عليك ، سماحة لا كظما ، وتحسن إلى من أساء إليك وتعتذر إليه أيضا. ومعنى هذا أنّك تنزل نفسك منزلة الجانى والمسىء ، وكلّ منهما خليق بالعذر.
والذى يشهدك هذا المشهد أن تعلم أنه إنّما سلّط عليك بذنب صدر منك ، كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)(١) ، فإذا علمت أنك بدأت بالجناية وانتقم الله منك على يده كنت فى الحقيقة أولى بالاعتذار. وقال بعض أهل الخصوص : من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال لم تحلّ له دعوة الفتوّة أبدا ، كأنه يقول : إذا لم تحوج يا فتى عدوّك إلى العذر والشفاعة ، ولم
__________________
(١) الآية ٣٠ سورة الشورى