ولعلّ في هذه المباغتة المفاجئة حكمة إلهيّة بالغة ، ليريهم من آيات كونيّة موجّهة لضمير الإنسان إلى جانب ضعف مقدرته تجاه إرادة الله القادر الحكيم.
وهذا من قبيل إراءة المعاجز على أيدي الأنبياء إيقاظا للضمير وليس إكراها على التسليم.
هذا ما دلّت عليه الآية الكريمة ودعمته التوراة بنصّها الصريح.
أمّا اقتلاع الجبل من أصله ورفعه في السماء برمّته فوق رؤوس القوم وكان معسكرهم فرسخا في فرسخ بما اضطروا إلى الاستسلام خوف الدمار والاستئصال ـ كما جاء في بعض التفاسير (١) ـ فلا شاهد له في القرآن ولا في أثر صحيح معتمد .. وإنّما هو شيء جاء في روايات إسرائيليّة عامّيّة اغترّ بها بعض الأوائل المشعوفين بأحاديث مسلمة اليهود.
قال السيّد محمّد رشيد رضا : شايع الأستاذ الإمام (الشيخ محمّد عبده) المفسّرين على أنّ رفع الطور كان آية كونيّة ، أي انتزع من الأرض وصار معلّقا فوقهم في الهواء. وهذا هو المتبادر من الآية بمعونة السّياق ، وإن لم تكن ألفاظها نصّا فيه.
وقال في وجه عدم نصّيّة الآية في ذلك : إنّ أصل النتق ـ في اللّغة ـ الزعزعة والزلزلة ، وأمّا الظلّة فكلّ ما أظلّك وأطلّ عليك سواء أكان فوق رأسك أم في جانبك مرتفعا له ظلّ. فيحتمل أنّهم كانوا بجانب الطور رأوه منتوقا أي مرتفعا مزعزعا ، فظنّوا أن سيقع بهم وينقضّ عليهم. ويجوز أنّ ذلك كان في أثر زلزال تزعزع له الجبل. قال : وإذا صحّ هذا التأويل لا يكون منكر ارتفاع الجبل في الهواء مكذّبا للقرآن! (٢).
قال الأستاذ النجّار : قد يكون جزء عظيم من الجبل اقتلع من مكانه أثناء رجفة أو زلزال ، رأوه بأعينهم وهم في أسفل الجبل كأنّه ظلّة ، وخافوا وقوعه بهم. وذلك عند أخذ ميثاقهم على العمل بالتوراة (٣).
__________________
(١) ستأتي الرواية عن قتادة في قوله تعالى : وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ قال : انتزعه الله من أصله ثمّ جعله فوق رؤوسهم ثمّ قال : «لتأخذنّ أمري أو لأرمينّكم به ...».
(٢) المنار ١ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.
(٣) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهّاب النجّار : ٢٣١.