لأنّ أصحاب تلك المزعومة استدلّوا لإمكان المسألة بجانب الوقوع (١) زاعمين صحّة تلكم الروايات ومن ثمّ حاولوا علاجها بهذا الأسلوب الغريب. وقد كانت قواعد الفنّ تقضي برفض أمثال تلكم الروايات التي تمسّ كرامة القرآن أوّلا ، وتنافي جانب ضرورة ثبوت القرآن في جميع آية بالتواتر دون أخبار الآحاد ثانيا ، وقد قيل في المثل : ثبّت العرش ثمّ انقش!
***
وقد تنبّه لضحالة هذه المزعومة الغريبة بعض كتّاب العصر ، هو الأستاذ العريض ـ حسبما تقدّم ـ ناقما وناقدا لها نقدا حكيما. قال : وذهبت طائفة من العلماء إلى إنكار هذا النوع من النسخ وعدم وقوعه في كتاب الله ـ عزوجل ـ لأنّه عيب لا يليق بالشارع الحكيم ، لأنّه من التصرّفات التي لا تعقل لها فائدة ، ولا حاجة إليها ، وتنافي حكمة الحكيم.
قال : والحقّ يقال إنّ هذا النوع من النسخ وإن كان جائزا عقلا ولكنّه لم يقع في كتاب الله ـ عزوجل ـ لأنّ هذه الروايات روايات آحاد ، والقرآن الكريم لا يثبت بروايات الآحاد مهما كانت مكانة قائلها ، ولا بدّ فيه من التواتر ، كما أجمع عليه العلماء قديما وحديثا. ولو أنّه صحّ ما قالوه لاشتهر بين الصحابة جميعا ، ولحفظه كثير منهم أو كتبوه في مصاحفهم. ولكن لم يرد شيء عن غير هؤلاء الرواة. فلا يمكن القطع بأنّ هذه الآيات التي ذكروها كانت مسطورة في عهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وفي صحف كتّاب الوحي ثمّ نسخت بعد ذلك ورفعت من المصحف ـ كما رواه بعض الصحابة ـ وبقي حكمها للعمل به. وأيضا فإنّ الحكم لا يثبت إلّا من طريق النصّ ، فزوال النصّ مقتض لزوال الحكم ، ولم يظهر لزوال النصّ وحده حكمة من عمل الحكيم لأنّ الحكم ما زال قائما لم ينسخ ، فأيّ فائدة في نسخ تلاوته؟
قال : ولعلّ ما قاله عمر بن الخطّاب : «إنّا كنّا نقرأ في كتاب الله ...» الكتب التي كان يحفظها هو وغيره ، من باب المبالغة في تشبيه الأحكام التي قالها الرسول بالآيات القرآنية ، لأنّ كلّا من السنّة الصحيحة والقرآن الكريم واجب الطاعة. وقد كان من الصحابة من يكتب الحديث ليحفظه حتّى نهى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن كتابة ما ليس بقرآن ، إلّا ما كان في صحيفة عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، وهنا نستطيع أن نقول : بأنّ هذه الآية التي قالها عمر كانت أحكاما حفظها عن الرسول بألفاظ
__________________
(١) راجع : مناهل العرفان ٢ : ٢١٥ ـ ٢١٦.