بعد بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد البعث والإنزال والتبليغ وعروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها » (١).
والجواب عنه : أنّ بعث الرسل في الآية كناية عن إتمام الحجّة كما مرّ ، فتدلّ على نفي العذاب ما لم تتمّ الحجّة بعد البعث ، والشاهد عليه قوله تعالى في الآية اللاحقة : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ... ) فهى تدلّ على أنّ الميزان في العذاب هو صدور الأمر ووقوع الفسق بعده ، كما يشهد عليه أيضاً ما مرّ من قوله تعالى في سورة القصص : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ... ) لأنّها تصرّح بأنّ الملاك هو تلاوة الآيات لا مجرّد البعث.
الخامس : النقض بالمستقلاّت العقليّة ، فإنّه لا إشكال ( كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة ) في تعذيبه تعالى على ترك المستقلاّت العقليّة ، كقبح قتل النفس المحترمة والسرقة والخيانة وغيرها من المعاصي التي يحكم بقبحها العقل مستقلاً ، ولو وقعت قبل بعث الرسل.
والجواب عنه : أنّ الآية منصرفة إلى أحكام تحتاج إلى البيان ، ولا حاجة إلى البيان في المستقلاّت العقليّة التي لا يصحّ فيها الإعتذار بقولهم : ( لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ) ، ولذلك يقال في مباحث العقائد أنّ من فوائد وجود النبي صلىاللهعليهوآله تأكيده المستقلاّت العقليّة والتأسيس بالنسبة إلى غيرها.
فتلخّص ممّا ذكر أنّ جميع الإشكالات الواردة مندفعة ، وإنّ الآية صالحة للاستدلال على أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة.
نعم إنّ النسبة بين هذه الآية والأخبار التي استدلّ بها الأخباريون على الاحتياط هى نسبة الورود ، فهى مورودة بتلك الأخبار لأنّ لسانها لسان قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بلا حجّة ، وتلك الأخبار على فرض دلالتها بيان وحجّة ، لكن تظهر ثمرتها في تأسيس الأصل الأولي في المسألة وأنّ الأصل هو البراءة ، فيرجع إليها إذا ناقشنا في دلالة تلك الأخبار على الاحتياط.
__________________
(٢) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٣٣.