الحوادث المختلفة فلا يعتني بهذا الاحتمال بل يداوم على عمله ويسير إلى مقصده من دون أن تمنعه هذه الاحتمالات ، وفي المحاكم القضائيّة العقلائيّة يبني على بقاء مالكية الإنسان ما لم يثبت خلافه ، وعلى بقاء الوكالة ما لم يثبت العزل ، وعلى بقاء زوجية الزوج الغائب وإن احتمل موته أو طلاقه.
وقد قال بعض المحقّقين « إنّ ذلك يظهر بالعيان والوجدان لمن نظر في أعمالهم وحركاتهم وسكناتهم في معاملاتهم وتجاراتهم وزياراتهم لأصدقائهم وأقربائهم ، وعياداتهم لمرضاهم وجميع امورهم ، بل وإن تأمّل في أعمال نفسه وحركاته الإرتكازية يرى أنّه يجري على طبق الحالة السابقة مع الشكّ في ارتفاعها » (١).
بل قد يقال : إنّه ثابت حتّى في الحيوانات فإنّها تطلب عند الحاجة ، المواضع التي عهدت فيها الماء والكلاء ، كما أنّ الطيور تعود من الأماكن البعيدة إلى أوكارها ، غاية الأمر أنّ بنائها على هذا يكون عن جبلّتها وغريزتها ، وبناء العقلاء يكون عن شعورهم وعاقلتهم.
وقد أورد على هذا بإشكالات عديدة ، ذكر اثنين منها في الكفاية :
أحدهما : إنّ بناء العقلاء هذا لا يفيدنا إلاّ إذا كان ناشئاً من تعبّدهم على ذلك ، وهو ممنوع لأنّه ينشأ من ملاكات عديدة ، فقد يكون رجاءً واحتياطاً ، وقد يكون من باب الاطمئنان بالبقاء ، وقد يكون ظنّاً ولو نوعاً ، وقد يكون من باب الغفلة كما هو الحال في الحيوانات دائماً وفي الإنسان أحياناً.
لكن الإنصاف أنّه غير تامّ ، لأنّ من الاحتمالات المذكورة في كلامه كون البناء من باب الظنّ النوعي ، ومنها كونه من باب الرجاء والاحتياط ، وهذا كافٍ في إثبات المطلوب ، لأنّه إذا كان الظنّ أو الرجاء أو شبههما حجّة عند العقلاء بحيث يحتجّ به العبيد على مواليهم ، والموالي على عبيدهم فهو كافٍ في إثبات المطلوب ، لأنّا لا نقصد من الحجّية إلاّهذا.
ثانيهما : سلّمنا ذلك ، لكن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة عن هذه السيرة.
وأورد عليه المحقّق الأصفهاني رحمهالله بأنّ « كلماته في هذه المسألة في تعليقته المباركة ، وفي مبحث خبر الواحد من الكتاب ، وفي هامشه هناك ، وفي هذا المبحث من الكتاب مختلفة ، ففي تعليقته على الفرائد قدّم السيرة على العمومات نظراً إلى استحالة رادعية العمومات عن
__________________
(١) راجع منتهى الاصول : ج ٢ ، ص ٤٠٩ ، للمحقّق البجنوردي.