السيرة ، وفي مبحث خبر الواحد أيضاً قدّم السيرة مع الالتزام بالدور من الطرفين على وجه دون وجه ، وفي هامش المبحث المزبور التزم بحجّية الخبر لاستصحاب حجّيته الثابتة قبل نزول الآيات بعد دوران الأمر بين الردع والتخصيص ، وفي هذا الموضع قدّم الآيات الناهية ، وادّعى كفايتها في الرادعيّة » (١).
أقول : قد مرّ سابقاً أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا يمكن أن تكون رادعة عن سيرة العقلاء على العمل ، لأنّ المراد من الظنّ فيها ليس هو الظنّ المصطلح ( وهو الاحتمال الراجح في مقابل العلم والشكّ والوهم ) بل إنّه في هذا القبيل من الآيات إشارة إلى الظنون الواهيّة والتخيّل والخرص ، كما تؤيّده القرائن الموجودة في نفس الآيات ، مثل ما ورد في قوله تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) (٢) فعطف على الظنّ ما تهوى الأنفس ، وما ورد في قوله تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (٣) ففسّر الظنّ بالخرص وهو التخمين والحدس بغير أساس ودليل. مضافاً إلى ورود هذه الآيات في المشركين وعبدة الأصنام الذين لم تكن عبادتهم للأصنام ناشئة من ظنّ عقلائي وأساس برهاني بلا ريب ، بل من توهّمات باطلة وخيالات كاسدة. هذا أوّلاً.
ويشهد له ثانياً : أنّه لو كان كذلك للزم تخصيص هذه الآيات في موارد العمل بالظواهر والبيّنة وخبر الواحد وقول ذي اليد وغيرها ، مع أنّ لحنها آبٍ عن التخصيص كما لا يخفى.
وثالثاً : أنّ الظاهر ورودها في خصوص اصول الدين والمسائل الاعتقاديّة التي لا يقاس عليها الفروع والمسائل الفرعيّة.
ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق الأصفهاني رحمهالله ، وهو أنّ « اللازم في حجّية السيرة العقلائيّة مجرّد عدم ثبوت الردع عنها من الشارع ، ولا يجب إحراز الامضاء وإثبات عدم الردع ، حتّى يجب البناء على عدم حجّيتها بمجرّد عدم العلم بالامضاء أو الجهل بعدم الردع لأنّ الشارع بما هو عاقل بل رئيسهم العقلاء متّحد المسلك معهم إلاّ إذا أحرز اختلاف مسلكه معهم بما هو شارع » (٤).
__________________
(١) راجع نهاية الدراية : ج ٥ ـ ٦ ، ص ٢٩ ، طبع مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
(٢) سورة النجم : الآية ٢٣.
(٣) سورة يونس : الآية ٦٦.
(٤) راجع نهاية الدراية : ج ٦ ـ ٦ ، ص ٣٠ ـ ٣١.