ويرد عليه : أنّه لو ثبت لنا اتّحاد مسلك النبي صلىاللهعليهوآله والأئمّة المعصومين مع سائر العقلاء ودخولهم فيهم من هذه الجهة بالروايات المعتبرة الدالّه على أفعالهم في هذه الموارد ، فبها ونعم المطلوب ، لكن لقائل أن يمنع عن ذلك ويقول : لم يرد بناءهم العملي في هذه الموارد بالروايات المأثورة عنهم ، نعم يمكن أن يقال : إنّ عمل العقلاء كان في مسمع ومنظر منهم وكانوا ساكتين عنه ، ولكنّه هو معنى الحاجة إلى امضائهم في إثبات الحجّية.
والإشكال الثالث : هو ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ بناء العقلاء على إبقاء الحالة السابقة وإن كان غير قابل للإنكار في الجملة ، إلاّ أنّه لم يعلم أنّ ذلك من جهة التعبّد بالشكّ والأصل العملي ، أو من جهة الأماريّة والكشف عن الواقع ، إذ يبعّد الأوّل عدم تعقّل بناء من العقلاء على صرف التعبّد بالشكّ من دون أماريّة وكاشفية ... كما أنّه يبعّد الثاني عدم وجود شيء في المقام يكون كاشفاً عن الواقع في ظرف الشكّ ، إذ اليقين السابق لا أماريّة له في ظرف الشكّ ، ونفس الشكّ لا أماريّة له أيضاً كما هو ظاهر ، إلاّ أن يقال : إنّ التعبّد بالشكّ من العقلاء وإن لم يكن في نفسه معقولاً ، إلاّ أنّه يمكن أن يكون ذلك بإلهام (١) من الله تعالى حتّى لا يختلّ امور معاشهم ومعادهم ، فإنّ لزوم اختلال النظام مع التوقّف عن الجري في الحالة السابقة مع الشكّ واضح ، فلأجله جعل الله الجري على طبقها من المرتكزات في أنفسهم مع عدم وجود كاشف عن تحقّقها أصلاً (٢).
أقول : وكلامه رحمهالله لا يخلو من نظر :
أمّا أوّلاً : فلأنّ ما أفاده من « أنّ بناءهم إلهام إلهي وإنّ فطرتهم جرت على ذلك » بنفسه دليل على وجود التعبّد لهم ، فإنّهم يلاحظون بعض الامور كأصالة البراءة ، وأنّه لا كاشفية لها بالنسبة إلى الواقع ، ولكن يجعلون بناءهم على ذلك من باب أنّ عدمه يوجب اختلال النظام ، ومن هذا القبيل باب الحقوق والجرائم ، فما دام لم يثبت جرم أحد ، أو كونه مديوناً ، لا يحكم عليه بالجرم والدين ، ويمكن أن يكون بناؤهم على الاستصحاب أيضاً من هذا القبيل ، ولا أقلّ من إمكانه ثبوتاً ، وبالجملة أنّ للعقلاء اصولاً وأمارات ، بل يمكن أن يقال : إنّ لجميع الاصول
__________________
(١) وهذا نظير ما قد يقال في باب قيمة الذهب في جميع الأعصار والأمصار من أنّها نوع من الإلهام الغيبي لتنظيم معاشهم الاقتصادي.
(٢) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٣٥٧.