والمعروف الجاري على ألسنة المحقّقين أنّ حقيقتها إنشاء البعث أو الزجر أو الترخيص الناشىء عن إرادة المولى أو كراهته أو ترخيصه في نفسه ، وهذا ممّا يتّضح لنا بالرجوع إلى الوجدان.
ولكن ذهب بعض أعاظم العصر قدّس الله نفسه إلى أنّ الحكم التكليفي اعتبار نفساني من المولى يبرز بالإنشاء ، وقال : « هذا الاعتبار النفساني تارةً يكون بنحو الثبوت ، أي المولى يثبت شيئاً في ذمّة العبد ويجعله دَيناً عليه ، كما ورد في بعض الروايات أنّ دَين الله أحقّ أن يقضى ، فيعبّر عنه بالوجوب ، لكون الوجوب بمعنى الثبوت ، واخرى يكون بنحو الحرمان ، وإنّ المولى يحرم العبد عن شيء ويسدّ عليه سبيله ، كما يقال في بعض المقامات : أنّ الله تعالى يجعل لنا سبيلاً إلى الشيء الفلاني فيعبّر عنه بالحرمة ، فإنّ الحرمة هو الحرمان عن الشيء ، كما ورد أنّ الجنّة محرّمة على آكل الربا مثلاً فإنّ المراد منه المحروميّة عن الجنّة ، لا الحرمة التكليفيّة ، وثالثة يكون بنحو الترخيص وهو الاباحة بالمعنى الأعمّ ، فإنّه تارةً يكون الفعل راجحاً على الترك واخرى بالعكس ، وثالثة لا رجحان لأحدهما على الآخر ، وهذا الثالث هو الإباحة بالمعنى الأخصّ » (١).
أقول : يرد عليه أوّلاً : أنّه خلاف الوجدان ، إذ إنّ الوجدان حاكم بأنّ البعث الإنشائي يكون كالبعث التكويني ، فكما أنّ في الثاني لا يوضع على ذمّة الإنسان شيء بعنوان الدين ، كذلك في الأوّل ، فلا يعتبر المولى بقوله « افعل » دَيناً على عهدة العبد ، بل أنّه مجرّد إنشاء بعث في نفسه ، يحاذي البعث التكويني الخارج بدفع المكلّف بيده نحو العمل.
ثانياً : أنّ كلامه لا يجري في الاستحباب لأنّه لا معنى للدين الإستحبابي ، مع أنّ الاستحباب يكون على وزان الوجوب ، والفرق بينهما من ناحية شدّة الطلب والبعث وضعفه.
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره من بعض الشواهد نظير ما ورد في بعض الروايات « إنّ دين الله أحقّ أن يقضى » تعبيرات كنائية ، ومن باب تشبيه الحكم بالدَين ، والقرينة عليه ما مرّ من قضاء الوجدان بما ذكرناه.
__________________
(١) مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٧٧ ـ ٧٨ ، طبع مطبعة النجف.