بقي هنا شيء :
وهو أنّه قد يبدو أنّ الاباحة ليست حكماً من الأحكام ، أي أنّها من قبيل « لا إقتضاء » و « لا حكم » فيكفي فيها عدم صدور بعث أو زجر من جانب المولى ، وعليه تكون الأحكام أربعة فما اشتهر في الألسن من أنّ الأحكام خمسة ، شهرة لا أصل لها.
ولكن عند الدقّة يمكن الفرق بين الأحكام الشخصيّة والقانونيّة ، فإنّ المتداول بين العقلاء من أهل العرف جعل الترخيص في كثير من الموارد بعنوان قانون من القوانين ، لأنّا إذا راجعنا إلى مجالس التقنين العقلائي نلاحظ أنّهم في كثير من الموارد ينشئون الجواز والترخيص ، كما ينشئون الوجوب أو الحرمة فينشئون مثلاً إنّ ورود البضاعة الفلانيّة مباح من هذا التاريخ ، وليس ذلك مجرّد دفع المنع السابق ، بل إنّه إنشاء جديد وحكم وجودي في مقابل حكم وجودي سابق ، لا فسخه ونسخه فقط.
ثالثها : في أنّ الوجود على قسمين : وجود خارجي وهو واضح ، ووجود ذهني ، وهو على قسمين أيضاً : ما يكون له ما بحذاء خارجي ، وما ليس له ما بحذاء خارجي ، بل هو من مخترعات الذهن ، والمخترعات الذهنيّة أيضاً على أقسام ثلاثة :
أحدها : الامور الانتزاعيّة ، وهى ما يكون له منشأ إنتزاع في الخارج ، كسببية النار للإحتراق ، فإنّ الذهن ينتزعها من مقايسة النار بالإحراق في الخارج قهراً ، من دون دخل لإرادة الإنسان واعتباره وجعله.
ثانيها : الاعتباريات ، وة ما ليس له منشأ إنتزاع في الخارج ، بل هو مجرّد اعتبار للعقلاء كالملكيّة التي لا يوجب اعتبارها أو عدم اعتبارها زيادة أو نقصاناً في الخارج ، بل هى تابعة لاعتبار المعتبر وباقية ببقائه.
إن قلت : ما هى حقيقة الاعتبار؟
قلنا : أنّها عبارة عن سلسلة من الفروض والتشبيهات التي يترتّب عليها آثار عقلائيّة ، لتوافقهم عليه ، فهى فروض ذات آثار عقلائيّة ، فإنّهم مثلاً يلاحظون الملكيّة التكوينيّة الخارجيّة التي أتمّها وأكملها مالكيّة ذات الباري تعالى لعالم الوجود ( وهى نفس سلطته واحاطته على العالم ) ومن مصاديقها مالكية الإنسان على أعضائه وصور ذهنه ، ومالكيته على أفعاله بواسطة الأعضاء ، فإنّ جميع ذلك سلطات تكوينية خارجيّة.