ثمّ إنّهم يفرضون في عالم الذهن أمراً يشبه ذلك ويرون لزيد مثلاً سلطة على الدار الكذائية ، كسلطته على أعضائه ، وهكذا في الزوجية فيلاحظون زوجية مصراعي الباب في الخارج مثلاً ، ويعتبرون مثلها للزوج والزوجة إلى غير ذلك من أشباهها ، فهى بجميعها كعكوس ومرايا لما في الخارج ، وصور ذهنية تشابهها.
ثالثها : الوهميّات ، وهى عبارة عن أوهام الناس وتخيّلاتهم التي لا قيمة لها عند العقلاء ، وليست مبدأً للآثار عندهم.
إذا عرفت هذه المقدّمات الثلاثة فاعلم أنّ الأقوال في حقيقة الأحكام الوضعيّة ثلاثة :
القول الأوّل : ما عبّر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمهالله عنه بما نصّه : « المشهور كما في شرح الزبدة بل الذي استقرّ عليه رأي المحقّقين كما في شرح الوافية للسيّد صدر الدين : إنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي ، وأنّ كون الشيء بسبباً لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء ، فمعنى قولنا إتلاف الصبي سبب لضمانه أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها ، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله : « أغرم ما أتلفته في حال صغرك » إنتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببيّة الإتلاف للضمان ».
وحاصله : أنّ الأحكام الوضعيّة كلّها امور انتزاعية من الأحكام التكليفية ، ليست لها جعل مستقلّ.
القول الثاني : ما هو على ألسنة جماعة ( بتعبير الشيخ الأعظم رحمهالله ) وهو أنّ الأحكام الوضعيّة امور اعتباريّة قابلة للجعل مستقلاً ، ففي قوله تعالى : ( أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) يكون للشارع جعلان : أحدهما وجوب الصّلاة ، الثاني سببية الدلوك للوجوب.
القول الثالث : القول بالتفصيل بين الأحكام الوضعيّة ، فقسم منها من الامور التكوينيّة ، وليس قابلاً للجعل أصلاً لا تبعاً ولا مستقلاً ، وقسم آخر من الامور الاعتباريّة وقابل للجعل مستقلاً ، وقسم ثالث من الامور الإنتزاعية يتعلّق بها الجعل تبعاً.
وينبغي هنا قبل بيان أدلّة الأقوال أن نشير إلى أنّ الامور الانتزاعيّة على ثلاثة أقسام باعتبار منشأ انتزاعها ، فقسم منها ينتزع من مقام الذات ، كسببيّة النار للإحتراق ، وقسم آخر ينتزع من مقام الصفات ، كتقدّم زيد على عمرو في المسير ، فإنّ وصف التقدّم أو التأخّر ينتزع