فنقول : أنّ الغليان على قسمين : غليان بنفسه وغليان بالنار وشبهها ، أمّا الغليان بنفسه فهو نشيش اسكاري يحصل بنفسه أو في مقابل الشمس ويكون من مقدّمات انقلاب العصير مسكراً ، وقد ذكر أهله أنّ المواد الحلوة الموجودة في العصير العنبي أو الزبيبي أو التمري وغيره تنجذب بالمواد المخمّرية وهى خليّات حيّة ، ثمّ يحصل منه المواد الكحولية وغاز الكربن ، وهذا الغاز هو الذي يوجب النشيش ، وهو المسمّى بغليان الخمر ( جوشش مي ) ، وأمّا الغليان بالنار فهو نشيش فيزيكي يحصل للعصير بحرارة النار.
والفرق بين هذين النوعين من الغليان والنشيش ماهوي ، والذي يوجب الاسكار وتجري عليه جميع أحكام الخمر ولا يطهّره ذهاب الثلثان هو النوع الأوّل من الغليان ، أي الغليان بنفسه ، وأمّا النوع الثاني فهو يوجب الحرمة فقط ولا دليل على نجاسته ، ويطهر العصير فيه بذهاب الثلثان وقد ذكرنا في التعليقة (١) على العروة أنّ الحكمة من تحريمه لعلّها هى أنّ العصير المتّخذ للشرب مدّة مديدة إذا لم يذهب ثلثاه ينقلب خمراً تدريجاً فحرّمه الشرع مطلقاً حماية للحمى ، وأمّا إذا ذهب ثلثاه فلا ينقلب مسكراً لأنّ من شرائط التخمير وجود كميّة وافرة من الماء.
ولعلّ أوّل من التفت إلى الفرق المذكور هو المحقّق شيخ الشريعة الأصفهاني رحمهالله في رسالته القيّمة في العصير العنبي.
فقد ظهر ممّا ذكر أنّه لا ربط بين الغليان بالنار والغليان بنفسه ، وأنّه لا دليل على نجاسة العصير إذا غلى بالنار ، بل الدليل قام على حرمته فقط. هذا أوّلاً.
وينبغي أن نشير ثانياً : إلى أنّ الثابت من هذه الحرمة إنّما هو في العصير العنبي ، وأمّا الزبيبي والتمري ونحوها فالاجتناب عنهما هو الأحوط ، وثالثاً أنّ هذا الحكم يجري فيما صدق عليه العصر عرفاً وأمّا ما يلقى من العنب أو الزبيب أو التمر في الغذاء فيغلى فلا دليل على حرمته فتوىً أو احتياطاً لعدم صدق عنوان العصير عليه.
إذا عرفت هذا فلنرجع في أصل البحث فنقول :
استدلّ القائلون بحجّية الاستصحاب التعليقي بأنّ أركانه تامّة ، من اليقين السابق والشكّ
__________________
(١) راجع التعليقة على العروة : ج ١ ، ص ٢٨.