ولتوضيح ذلك لابدّ من نقل بعض كلماتهم في هذا المجال :
ففي مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه ( لمؤلّفه عبدالوهّاب الخلاّف ) : « الاجتهاد بذل الجهد للتوسّل إلى الحكم في واقعة لا نصّ فيها بالتفكّر واستخدام الوسائل التي هدى الشارع إليها ( كالقياس والاستحسان ) للاستنباط فيما لا نصّ فيه » (١).
وحكى عن مالك وأحمد : « إنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع ، وأنّ المصلحة التي لا يوجد من الشرع ما لا يدلّ على اعتبارها ولا على إلغائها
__________________
القياس الذي هو إلحاق المسألة بنظائرها في الحكم ( ومثّل له بعدم ضمان الأمين في الوديعة الذي يقاس عليه كلّ أمانة كمال الشركة والإجارة ) ولكنّهم فرّقوا في الاستحسان بين الأجير الخاصّ كالخادم والأجير العام كالصيّاغ ونحوه فقالوا أنّه ضامن كي لا يتقبّل من أعمال الناس أكثر من طاقته طمعاً في زيادة الربح » ( ج ١ ، ص ٨٣ ـ ٨٩ ).
هذا ـ ولكن الشافعي في كتاب الامّ عقد بحثاً سمّاه بكتاب إبطال الاستحسان ، ويقول فيما يؤثر عنه : ليس للمجتهد أن يشرع ، ومن استحسن فقد شرع ( ج ١ ص ١٢٥ ).
وأمّا المصالح المرسلة فقال في نفس الكتاب أيضاً : والمصالح المرسلة هى كلّ مصلحة لم يرد في الشرع نصّ على اعتبارها بعينها أو بنوعها ... فإذا كانت المصلحة قد جاء بها نصّ خاصّ بعينها ككتابة القرآن صيانة له من الضياع وكتعليم القراءة والكتابة ، أو كانت ممّا جاء نصّ عامّ في نوعها يشهد له الاعتبار كوجوب تعليم العلم ونشره ... فعندئذ تكون من الصالح المنصوص عليها عيناً أو نوعاً لا من المصالح المرسلة ، ويعتبر حكمها ثابتاً بذلك النصّ لا بقاعدة الاستصلاح ( فالمصالح المرسلة تكون مقابلة للمنصوصة ) ( ج ١ ، ص ٩٨ ).
وأمّا سدّ الذرائع فقال : « أنّه من فروع الاستصلاح يمنع شرعاً كلّ طريق أو وسيلة قد تؤدّي عن قصد أو غير قصد إلى المحاذير الشرعيّة ، ويسمّى هذا الأصل في اصطلاح الفقهاء والاصوليين مبدأ سدّ الذرائع » ( ج ١ ، ص ١٠٧ ) وقال في موضع آخر ما حاصله : أنّه عبارة عن منع كلّ ما يمكن أن يكون حيلة لإبطال حكم الشرع ويتسبّب إليه ، ثمّ مثّل له من الشرع بأمثلة كثيرة مثل منع بناء المساجد على القبور والنهي عن الخلوة بالأجنبية ، ثمّ ذكر أحكاماً اجتهادية على هذا المبنى مثل أن يكون من حقّ الزوجة المطلّقة طلاق الفرار من الإرث ، وذكر من مصاديق هذا النوع من الاستصلاح مسألة تغيير الأحكام بتغيّر الزمان وحكى له أمثلة كثيرة : منها أنّ الفقهاء المتقدّمين كانوا يجيزون إيجاد عقارات الواقف مهما كانت مدّة الإيجار طويلة أو قصيرة ، ولكن المتأخّرين لمّا رأوا كثرة غصب المتنفّذين لأملاك الأوقاف وتواطؤ بعض المسؤولين على الأوقاف معهم أفتوا بمنع إيجار عقار الوقف أكثر من سنة واحدة في الدور والحوانيت المبنية ، وثلاث سنين في الأراضي الزراعية خشية أن يدّعي المستأجر في النهاية ملكية العقار ( ج ١ ، ص ١١٠ ).
(١) مصار التشريع الإسلامي : ص ٧ ، حكيناه من الاصول العامّة : ص ٥٦٤.