لكل قرن من قرون العز في العرب نابغة أو نوابغ من الملوك والأمراء ، ومثلهم من العلماء والأدباء ، وقد امتاز القرن الرابع في الشام ـ وإذا قلنا الشام عنينا هذا القطر المحبوب الممتدّ من العريش إلى الفرات ومن جبال طورس إلى البادية على نحو ما كان يعرفه العرب ـ بقيام بني حمدان فيه ، ورئيسهم سيف الدولة بن حمدان استولى على القسم الشمالي منه ، والدولة العباسية قد أخذت تتناوشها ملوك الأطراف وأمراؤها في العراق ومصر والشام والجزيرة ، وأخذت دولة الخلافة بالضعف بصنع بعض الخوارج ، ومنهم من كان ينازعها السلطة علنا ، ومنهم من كان يشاركها فيها ويخضع لها في الصورة الظاهرة ، وبنو حمدان كانوا من هذا النوع الأخير.
أصل بني حمدان بطن من بني تغلب بن وائل من العدنانية ، وهم بنو حمدان بن حمدان كانوا ملوك الموصل والجزيرة وحلب في أيام المقتفي بالله * العباسي ، وأول من ملك منهم أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ثم أخوه إبراهيم بن حمدان ثم أخوه سعيد ونصر أبناء حمدان ، ثم استولى على الشام وحلب معين الدولة علي بن أبي الهيجاء بن حمدان.
رسخت بسيف الدولة أقدام بني حمدان في هذه الديار ، واتخذ حلب عاصمته ، وكانت مملكته عبارة عن جند حمص وجند قنسرين والثغور الشامية والجزرية وديار مضر وديار بكر ، ولما تم له الأمر مثل في بلاده الصورة التي كان يريد أن يمثلها في دمشق وأبى أهلها عليه تمثيلها ، فأخذ يستصفي الأملاك ويصادر الأموال ويبني الدور والقصور ويظهر من الأبهة ما كاد يعجز عنه الخوالف من العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس والفاطميين في مصر.
لم تكن الجباية في تلك القرون حالة مستقرة ، فما ورد عن التاريخ وأصحابه من قوانينها العادلة السهلة التطبيق كان يجري العمل به في البلاد كلها ، وكانت صورة التنفيذ تختلف باختلاف نزاهة السلطان وعفته عن أموال الناس ، وسيف الدولة كان على الأرجح من القائلين بأن الغاية تبرر الواسطة.
__________________
( * ) ـ الصواب : المتقي لله.