كان رحمهالله على ما أجمع عليه الثقاة مثل ابن حوقل معاصره والأزدي وسبط بن الجوزي يجوّز أخذ ما في أيدي الناس ليستعين به على غزو الروم ، ويسرف بجانب كبير يفضل به على الشعراء والأدباء فيخرجه من أكياس الرعية وجيوبهم لينفقه في وجوه المبرات والعطايا ، ولذلك أسس في هذه المدينة الجميلة دولة في الأدب لم يقم مثلها في الشام منذ نحو عشرين قرنا إلى يومنا هذا.
ليس في العالم شر محض ولا خير محض ، ولكل عاقل في الأرض مزية كما أنه له ما يعدّ عليه من الهنات ، وسيف الدولة من هذا القبيل لم تكن أعماله إلى الخير المحض بمصادراته وإسرافه ، وكانت له مزيتان قل أن يكتبا لغيره ، وهما نهضة الآداب في هذه البلاد ودفع عادية الروم عنها ، ولولاه لعاد إليها سلطانهم بعد أن تقلص بالإسلام نيفا وثلاثة قرون. وهذا الإجمال كما ترون يحتاج إلى تفصيل.
كان هم سيف الدولة في سياسته الخارجية أن يضعف الروم في آسيا الصغرى ، فكان كثيرا ما يغزوهم ويفتح حصونهم ويسبي من أبنائهم ويخرب في زروعهم وقراهم ويستصفي أموالهم وعروضهم ، وقيل إنه غزاهم أربعين مرة كانت فيها بعض الغزوات له وبعضها عليه ، وكان همه في سياسته الداخلية تنجيد القصور وجمع الأموال والتجوز في أخذ الحلال والحرام منها وإظهار أبهة الملك والإفضال على الشعراء ، وكانت عصبيته من عرب الجزيرة مسقط رأسه ومنبعث دولته ومن عرب الشام مثل بني كلاب الذين أدناهم وأمن سربهم فقهروا العرب وعلت كلمتهم.
قال في مسالك الأبصار : وبنو كلاب هم عرب أطراف حلب والروم ، ولهم غزوات عظيمة معلومة وغارات لا تعد ولا تزال ( أي في القرن الثامن ) تباع بنات الروم وأبناؤهم من سباياهم ، ويتكلمون بالتركية ويركبون الأكاديش ، وهم عرب غزو ورجال حروب وأبطال جيوش ، وهم من أشد العرب بأسا وأكثرهم ناسا. وكانت له طرق غريبة في الرحمة ، من ذلك أنه سار مرة بالبطارقة الذين في أسره إلى الفداء ، وكان في أسر الروم ابن عمه أبو فراس وجماعة من أكابر الحلبيين والحمصيين ، فأخذ بالفداء ، ولما لم يبق من أسرى الروم أحد اشترى الباقين كل نفس باثنين وسبعين دينارا حتى نفد ما معه من المال ، فاشترى الباقين