وفي صفر من سنة ثماني عشرة وخمسمائة تنكر نور الدولة بلك على حسان بن كمشتكين صاحب منبج لشيء بلغه عنه فأنفذ قطعة من عسكره مع ابن عمه تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق وتقدم إليهم أن يمروا على منبج ويطلبوا حسانا أن يخرج معهم للإغارة على تل باشر ، فإذا خرج يقبضونه ، ففعلوا ذلك ودخلوا منبج وعصى عليهم الحصن ودخله عيسى أخوه ، وسير حسان فحبس في حصن بالو بعد أن عوقب وعرّي وسحب على الشوك فلم يسلمها أخوه.
وكتب عيسى إلى جوسلين : إن وصلتني وكشفت عني عسكر بلك سلمت إليك منبج. وقيل إنه نادى بشعار جوسلين بمنبج فمضى إلى بيت المقدس وطرابلس وجميع بلاد الفرنج وحشد ما يزيد على عشرة آلاف فارس وراجل ووصل نحو منبج ليرحل بلك عن منبج ، فسار إليه بلك لما قرب من منبج والتقيا يوم الاثنين ثامن عشر شهر ربيع الأول واقتتل العسكران وانهزم الفرنج وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون إلى آخر النهار ، وحمل فيهم بلك ذلك اليوم خمسين حملة يقتل فيهم ويخرج سالما يضرب بالسيوف ويطعن بالرماح ولا يكلم ، وعاد إلى منبج فبات مصليا مبتهلا إلى الله تعالى لما جدده على يده من الظفر بالفرنج. وأصبح يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول فقتل كل أسير أسره في الوقعة ، ثم زحف نحو الحصن ليختار موضعا ينصب فيه المنجنيق وعليه بيضة وبيده ترس ، وكان عزم على أن يستخلف ابن عمه تمرتاش بن إيلغازي على حصار منبج ويطلع منجدا لأهل صور ، فإن الفرنج كانوا يضايقونها وفي تلك المضايقة أخذوها ، فبينا بلك قائما يأمر وينهى إذ جاءه سهم من الحصن ، وقيل إنه كان من يد عيسى فوقع في ترقوته اليسرى فانتزعه وبصق عليه وقال : هذا قتل المسلمين كلهم ، ومات لوقته ، وقيل بقي ساعات وقضى نحبه رحمهالله وحمل إلى حلب ودفن بها قبلي مقام ابراهيم عليهالسلام (١).
__________________
(١) قال في المختار من الكواكب المضية : لما قتل بلك بن بهرام بن أرتق عند منبج كان معه تمرتاش بن إيلغازي فحمل بلك مقتولا إلى حلب ودفن بها قبلي مقام إبراهيم الخليل عليهالسلام وقبره عليه حجارة كبار مكتوب عليها بالكوفي قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله الآية وتاريخ وفاته في سنة ثمان عشرة وخمسمائة اه.
أقول : لم يزل قبلي المقام المذكور في وطأة من الأرض قبر عليه حجارة كبيرة وعليه كتابة بالخط الكوفي المسمى بالمزهر ، ويغلب على الظن أنه قبر بلك المذكور ، إلا أن ما كتب عليه هو آية الكرسي لا الآية المتقدمة ، وعن يمين المقام المذكور بين قبور آل راغب بك كبير محرر عليه بالخط الكوفي المزهر آية الكرسي أيضا ، إلا أن بعض الكتابة مطمور في الأرض ، والكتابة في هذين القبرين هو غاية في الحسن مثل الكتابة التي على منارة الجامع الكبير ، ويصلح أن يعد هذان القبران من نفائس الآثار العربية القديمة وهما يمثلان ما كان عليه الخط الكوفي في ذلك العصر.