وبقي الحلبيون عند تمرتاش يحثونه على التوجه إلى حلب وهو يعدهم ولا يفعل ، وهم يقولون له : نريد منك أن تصل بنفسك والحلبيون يكفونك أمرهم ، فضاق الأمر بالحلبيين إلى حد يأكلون فيه الكلاب والميتات ، وقلت الأقوات ونفد ما عندهم وفشا المرض فيهم فكان المرضى يئنون من شدة المرض ، فإذا ضرب البوق لزحف الفرنج قام المرضى كأنما أنشطوا من عقال وزحفوا إلى الفرنج وردّوهم إلى خيامهم ، ثم يعودون إلى مضاجعهم. فكتب جدي أبو الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم كتابا إلى والده يخبره بما آل أمر حلب إليه من الجوع وأكل الميتات والمرض فوقع كتابه في يد تمرتاش فغضب وقال : انظر إلى هؤلاء يتجلدون عليّ ويقولون إذا وصلت فأهل حلب يكفونك أمرهم ويغرون بي حتى أصل في قلة وقد بلغ بهم الضعف إلى هذه الحالة.
ثم أمر بالتوكيل والتضييق عليهم فشرعوا في إعمال الحيلة والهرب إلى آقسنقر البرسقي ليستصرخوا به ، فاحتالوا على الموكلين بهم حتى ناموا وخرجوا هاربين ، فأصبحوا بدارا وساروا حتى أتوا الموصل فوجدوا البرسقي مريضا مدنفا والناس قد منعوا من الدخول عليه إلا الأطباء والفروج تدق له لشدة الضعف. ووصل إلى دبيس من أخبره بذلك فضرب البشارة في عسكره وارتفع عنده التكبير والتهليل ونادى بعض أصحابه : أهل حلب قد مات من أملتم نصره ، فكادت أنفس الحلبيين تزهق.
واستأذن الحلبيون على البرسقي فأذن لهم فدخلوا عليه واستغاثوا به وذكروا له ما أهل حلب فيه من الضر ، فأكرمهم رحمهالله وقال لهم : ترون ما أنا فيه الآن من المرض ، ولكن قد جعلت لله عليّ نذرا إن عافاني من مرضي هذا لأبذلن جهدي في نصرتكم والذب عن بلدكم وقتال أعدائكم.
قال القاضي أبو غانم قاضي حلب : فما مضى ثلاثة أيام بعد ذلك حتى فارقته الحمى فأخرج خيمته ونادى في العساكر بالتأهب للجهاد إلى حلب ، وبقي أياما وعمل العسكر أشغاله ، وخرج رحمهالله في عسكر قوي فوصل إلى الرحبة وكاتب أتابك طغتكين صاحب دمشق وصمصام الدين خير خان بن قراجا صاحب حمص ، ورحل إلى بالس وسار منها إلى حلب فوصلها يوم الخميس لثمان بقين من ذي الحجة من سنة ثمان عشرة.