وقمامصتهم وكنودهم إلى أتابك زنكي ليرحلوه عن بعرين فلم يرحل وصبر لهم إلى أن وصلوا إليه ، فلقيهم وقاتلهم أشد قتال رآه الناس وصبر الفريقان. ثم أجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج وأخذتهم سيوف المسلمون ومنع أتابك زنكي عنهم كل شيء حتى الأخبار ، فكان من به منهم لا يعلم شيئا من أخبار بلادهم لشدة ضبطه الطرق وهيبته من جنده.
ثم إن القسوس والرهبان دخلوا بلاد الروم وبلاد الفرنج وما والاها من بلاد النصرانية مستنفرين على المسلمين وأعلموهم أن زنكي إن أخذ قلعة بعرين ومن فيها من الفرنج ملك جميع بلادهم في أسرع وقت لعدم المحامي عنها وأن المسلمين ليس لهم نية إلا قصد البيت المقدس فحينئذ اجتمعت النصرانية وساروا على الصعب والذلول وقصدوا الشام مع ملك الروم وكان منهم ما نذكره.
وأما زنكي فإنه جد في قتال الفرنج فصبروا وقلت عنهم الميرة والذخيرة ، فإنهم كانوا غير مستعدين ولم يكونوا يعتقدون أن أحدا يقدر عليهم ، بل كانوا يتوقعون ملك باقي بلاد الشام ، فلما قلت الذخيرة أكلوا دوابهم وأذعنوا بالتسليم ليؤمنهم ويتركهم يعودون إلى بلادهم فلم يجبهم إلى ذلك ، فلما سمع بقرب ملك الروم من الشام واجتماعه بمن بقي من الفرنج أعطى لمن في الحصن الأمان وقرر عليهم تسليم الحصن ومن المال خمسين ألف دينار يحملونها إليه ، فأجابوه إلى ذلك فخرجوا وسلموا إليه ، فلما فارقوه بلغهم اجتماع من اجتمع بسببهم فندموا على التسليم حيث لا ينفعهم الندم ، وكان لا يصلهم شيء من الأخبار البتة فلهذا سلموه.
وكان زنكي في مدة مقامه عليهم فتح المعرة وكفرطاب من الفرنج ، فكان أهلها وأهل سائر الولايات التي بينها وبين حلب وحماة مع أهل بعرين في الخزي لأن الحرب بينهم قائمة على ساق والنهب والقتل لا يزال بينهم ، فلما ملك أمن الناس وعمرت البلاد وعظم دخلها وكان فتحا مبينا ، ومن أحسن الأعمال ما عمله زنكي مع أهل المعرة ، فإن الفرنج لما ملكوها كانوا قد أخذوا أملاكهم ، فلما فتحها زنكي الآن حضر من بقي من أهلها ومعهم أعقاب من هلك وطلبوا أملاكهم فطلب منهم كتبها ، فقالوا : إن الفرنج أخذوا كل مالنا والكتب التي للأملاك فيها ، فقال : اطلبوا دفاتر حلب وكل من عليه خراج على ملك يسلم إليه ، ففعلوا ذاك وأعاد على الناس أملاكهم ، وهذا من أحسن الأفعال وأعدلها اه.