وبالإضافة الى هذه الدلالة فان أقرب الناس الى ربه يعلن للأجيال بأنه أمام الغيب بشر لا فرق بينه وبين غيره من الناس ، ثم لا يكتفي بهذا الإعلان بل يستدل على ذلك بالحس والوجدان وهو انه لو علم الغيب لعرف عواقب الأمور ، فأقدم على ما تكون عاقبته خيرا ، وأحجم عما تكون عاقبته شرا ، وما أصابه في هذه الحياة ما يسوؤه ويكرهه.
وكيلا يقول قائل : كيف لا يعلم محمد الغيب ، وهو الرسول المقرب من الله؟. قال محمد (ص) بأمر من الله : إن أنا إلا بشير ونذير لقوم يؤمنون. انه رسول الله ، ما في ذلك ريب .. ولكن مهمة الرسول تنحصر بتبليغ الناس رسالات ربهم ، وإنذار من عصى بالعقاب ، وبشارة من أطاع بالثواب ، أما علم الغيب ، والنفع والضر فبيد الله وحده .. وخص المؤمنين بالبشارة والانذار ، مع انهما يعمان جميع الناس اشارة إلى أن البشارة والانذار إنما ينتفع بهما من يريد الإيمان الحق ، أما المكابر فلا يجدي معه شيئا.
وتسأل : لقد جاء في سيرة النبي (ص) وكتب الأحاديث : ان محمدا (ص) أخبر عن كثير من المغيبات .. من ذلك اخباره بأن المسلمين من بعده يتغلبون على الروم والفرس ، وان سلمان الفارسي سيوضع على رأسه تاج كسرى ، فوضع .. وأيضا أخبر عن موت النجاشي وعن شهادة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وعن نباح كلاب حوأب على عائشة وعن قتال علي بن أبي طالب الناكثين والقاسطين والمارقين ، وعن استشهاد سبطه الحسين بن علي .. إلى غير ذلك كثير .. فكيف تجمع بين إخباره عن المغيبات ، وبين قوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ).
الجواب : ان غيب الله لا حد له ولا حصر ، وحده ان لا حد له ، وهذا الغيب على أنواع : نوع يحجبه الله عن عباده ، ولا يطلع عليه أحدا كائنا من كان كقيام الساعة. ونوع يطلع عليه من ارتضى من عباده ، وإليه أشارت الآية ٢٦ من الجن : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ). والآية ١٧٩ من آل عمران : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ). ونوع يطلع عليه كل الناس كالبعث والنشر ، والجنة والنار.