قلت : إنّهم أقدموا على العمل بقوله غافلين عن فسقه ، ولولا الغفلة لما ركنوا إلى قوله.
أقول : لا شكّ أنّ الجهالة تستعمل في معنى السفاهة ، لكنّها في الآية ليست بهذا المعنى ، بل هي فيها بمعنى عدم العلم بالواقع ضدّ التبيّن.
أمّا الأوّل : فقد استعملت في قوله سبحانه : ( أَنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَة ثُمَّ تابَ مِنْ بعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ رَحِيم ) (١) وقال سبحانه : ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَة ثُمَّ تابُوا مِنْ بعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيم ) (٢) وقال سبحانه : ( إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلى اللّهِ لِلَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَريب ) (٣).
قال الراغب في المفردات : إنّ الجهل على ثلاثة أضرب : ثالثها فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل.
وأمّا الثاني : فلأنّ الظاهر انّ الجهالة في الآية في مقابل التبيّن ، الذي هو إمّا بمعنى العلم القطعي كما قلناه ، أو الاطمئنان ، ويكون المراد من مقابله أعني الجهالة ، ضدّهما ، لا مقابل الحكمة.
الوجه الثالث : ما أجاب به المحقّق النائيني من أنّ المفهوم حاكم على التعليل ، لأنّ أقصى ما يدل عليه التعليل عدم جواز العمل بما وراء العلم ، والمفهوم يقتضي إلغاء احتمال الخلاف وجعل الخبر العادل محرِزاً للواقع وعلماً في مقابل التشريع ، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما ، لأنّ المحكوم لا يعارض الحكم ولو كان ظهوره أقوى. (٤)
__________________
١. الأنعام : ٥٤.
٢. النحل : ١١٩.
٣. النساء : ١٧.
٤. فوائد الأُصول : ٣ / ١٧٢.