نعم هنا قسم من مباحث الاصول يقع النزاع فيه معنوياً ، وقد حكى (١) صاحب الحدائق عن المحدّث الشيخ عبدالله البحراني صاحب كتاب منية الممارسين : أنّ موارد الاختلاف في هذا القسم تنتهى إلى ثلاثة وأربعين مسألة ، ولكن الإنصاف أنّ هذا العدد ليس عدداً واقعياً ، فإنّ كثيراً ممّا عدّه من موارد الاختلاف هى من شقوق دليل العقل ، وتجمع تحت عنوان دليل العقل ، والصحيح أنّ العمدة من موارد النزاع بينهم هى امور ثلاثة :
أحدها : في عدد الأدلّة ، فإنّها عند الاصوليين أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل ، بينما هى عند الأخباريين الأوّلان خاصّة ، ولكن قد مرّ أنّ الإجماع الحجّة عند الاصوليين يرجع في الحقيقة إلى السنّة ، فهو ليس دليلاً برأسه ، وأمّا دليل العقل فالبديهيات العقليّة وهكذا العلوم العقليّة التي إستمدّت قضاياها من الحسّ ، كالرياضيات فهى حجّة عند الجميع ، فتبقى النظريات غير المعتمدة على الحسّ ، فالأخباريون ذهبوا إلى عدم حجّيتها لما ظهر من الخطأ في تاريخ العلوم في هذا القسم من المدركات العقليّة ( وهو نفس ما استدلّ به المذاهب الحسّية والتجربية في الفلسفة الأوربية ) ولذلك قالوا بعدم حجّية ما يدركه العقل في مثل مسألة مقدّمة الواجب ومسألة الترتّب ومسألة أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ ومسألة إجتماع الأمر والنهي وغيرها من أشباهها.
ثانيها : أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة.
ثالثها : حجّية ظواهر كتاب الله ، فإنّ بعض الأخباريين ذهب إلى عدم حجّيتها إلاّبعد ضمّ تفسير الأئمّة المعصومين عليهمالسلام إليها.
فقد ظهر أنّ موارد الاختلاف بينهم قليلة ، والإنصاف أنّ هذا المقدار من الخلاف أمر قهري طبيعي قد يكون بين الاصوليين أنفسهم أيضاً ، فلا يوجب تشنيعاً ولا تكفيراً من جانب الأخباريين بالنسبة إلى الاصوليين أو بالعكس كما نبّه عنه المحدّث البحراني في المقدّمة الثانية عشرة ، فالجدير بالمقام نقل كلامه في هذا المجال ، وإليك نصّه في الحدائق : « وقد كنت في أوّل الأمر ممّن ينتصر لمذهب الأخباريين ، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين ، وأودعت كتابي الموسوم بالمسائل الشيرازية مقالة مبسوطة مشتملة
__________________
(١) الحدائق ، ج ١ ، ص ١٧٠ ، المقدّمة الثانية عشرة.