على جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية تدلّ على ذلك وتؤيّد ما هنالك ، إلاّ أنّ الذي ظهر لي ـ بعد إعطاء التأمّل حقّه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام ـ هو إغماض النظر عن هذا الباب ، وإرخاء الستر دونه والحجاب ، وإن كان قد فتحه أقوام وأوسعوا فيه دائرة النقض والإبرام :
أمّا أوّلاً : فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين والإزراء بفضلاء الجانبين ، كما قد طعن به كلّ من علماء الطرفين على الآخر ، بل ربّما إنجرّ إلى القدح في الدين ، سيّما من الخصوم المعاندين ، كما شنّع به عليهم الشيعة من إنقسام مذهبهم إلى المذاهب الأربعة ، بل شنّع به كلّ منهم على الآخر أيضاً.
وأمّا ثانياً : فلأنّ ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جلّة بل كلّه عند التأمّل لا يثمر فرقاً في المقام ... ـ إلى أن قال ـ.
وأمّا ثالثاً : فلأنّ العصر الأوّل كان مملوءاً من المحدّثين والمجتهدين ، مع أنّه لم يرتفع بينهم صيت هذا الخلاف ، ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالإتّصاف بهذه الأوصاف ، وإن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل ، واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل ، وحينئذٍ فالأولى والأليق بذوي الإيمان ، والأحرى والأنسب في هذا الشأن هو أن يقال : أنّ عمل علماء الفرقة المحقّة والشريعة الحقّة ـ أيّدهم الله تعالى بالنصر والتمكين ورفع درجاتهم في أعلى علّيين سلفاً وخلفاً ـ إنّما هو على مذهب أئمّتهم صلوات الله عليهم وطريقهم الذي أوضحوه لديهم ، فإنّ جلالة شأنهم وسطوع برهانهم ودرعهم وتقواهم المشهور بل المتواتر على مرّ الأيّام والدهور يمنعهم من الخروج عن تلك الجادّة القويمة والطريقة المستقيمة ، ولكن ربّما حادّ بعضهم أخبارياً كان أو مجتهداً عن الطريق غفلة أو توهّماً أو لقصور إطّلاع أو قصور فهم أو نحو ذلك في بعض المسائل ، فهو لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً ، وجميع تلك المسائل ـ التي جعلوها مناط الفرق ـ من هذا القبيل ، كما لا يخفى على من خاض بحار التحصيل ، فإنّا نرى كلاً من المجتهدين والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل ، بل ربّما خالف أحدهم نفسه ، مع أنّه لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً ، وقد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق ( رحمهالله تعالى ) إلى مذاهب غريبة لم يوافقه عليها مجتهد ولا أخباري ، مع أنّه لم يقدح ذلك في علمه وفضله ، أو لم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الإعتساف إلاّمن زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه الله تعالى برحمته