(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ). هكذا يبث اللصوص والسفاحون دعاياتهم المضللة ضد كل مخلص في كل زمان ومكان .. محمد مجنون وساحر وكذاب ، ولمه؟ لأنه يأبى الكذب والضلال ، ويحارب اللصوصية والاستغلال .. افترت قريش على محمد .. وهي تعرف من هو محمد منذ نشأته ، حتى تجاوز الأربعين من عمره الشريف ، وتعرف فيه العقل والصدق والأمانة ، ولكنها تعرف أيضا ان رسالة محمد هي الخطر الأكبر على سلطان قريش وطغيانها ، ومن أجل هذا وحده قالت : انه مجنون عسى أن يخدع بهذا الافتراء من استغلوه واستعبدوه .. فدعاهم القرآن إلى التفكر والتدبر في أمر محمد (ص) ، وهو صاحبهم ، وعشيرهم الذي سبروه وخبروه ، دعاهم القرآن أن يتفكروا : هل أخذوا عليه مأخذا ، أو وجدوا في عقله وخلقه مغمزا؟ (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) يبين الحق ، وينذر من خالفه ، وهذا هو ذنبه الوحيد عندهم.
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ). ملكوت مبالغة في الملك ، والمعنى ان السموات والأرض وكل ما فيهما من شيء يخضع لسلطانه ، ويدل على وحدانيته ، وان ما من عاقل ينظر الى أي شيء في هذا الوجود مجردا عن كل غاية إلا آمن بالله وكتبه ورسله ، أما الذي لا يفكر إلا في مصلحته فلا يهتدي ولن يهتدي إلى الله ولا لشيء من الخير (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ). بعد أن طلب الله اليهم التفكر والتدبر في خلق الكون وأشيائه نبههم إلى الموت هادم اللذات ، ومفرق الجماعات ، وانه ربما فوجئوا به عما قريب ، وهم في ضلالهم سادرون. نبههم الى هذا عسى أن يتوبوا ويثوبوا الى الرشد.
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)؟ الضمير في بعده يعود الى القرآن ، وليس بعد القرآن بيان أوفى ، ولا دليل أقوى ، فمن لا تقنعه دلائل الله فلا يقنعه شيء. (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) ذكرنا معناه قريبا عند تفسير الآية ١٧٨ من هذه السورة (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). أي ان الله يتركهم يترددون في الضلال ويمهلهم إلى أجل ، ثم يجازيهم بما أسلفوا ، وليس في هذا الإهمال ظلم ، لأنه جاء بعد البيان والتحذير ، وبعد اليأس من ارعوائهم وهدايتهم.