يا محمد الله والمؤمنون برسالتك ، ودليلنا على ذلك قوله تعالى في الآية السابقة ٦٢ : (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) فإنها صريحة بأن الله والمؤمنين نصروا محمدا ، فكذلك : (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). ومهما يكن ، فان القصد أن يطمئن النبي ويعلم بأن معركته مع الكافرين مضمونة على كل حال ، لأن القوة التي تسانده لا غالب لها.
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ). يقول جل ثناؤه لنبيه : شجع يا محمد أصحابك على القتال ، وأخبرهم بأنهم كفء لأعداء الله وأعدائهم ، حتى ولو زاد عددهم عشرة أضعاف ذلك بأن المؤمنين يفقهون أمر الله ، ويعتقدون باليوم الآخر ، وان السعادة تنال بالجهاد والاستشهاد ، فيقدمون عليه بنية صادقة ، وعزم قوي ، أما الكافرون فإنهم لا يفقهون أمر الله ، ولا يعتقدون بالمعاد ، ولهذا يحجمون شحّا بحياتهم وحرصا عليها من الفناء والحرمان.
(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). أطال المفسرون والفقهاء الكلام حول هذه الآية ، فمنهم من قال : إنها ناسخة للآية المتقدمة التي فرضت على المسلم أن لا يفر من عشرة ، وقال آخر ، شق على المسلمين أن يقابل الواحد منهم عشرة ، فجاء التخفيف بقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الخ ، وأفتى الفقهاء استنادا الى هذه الآية بتحريم الفرار من الزحف إلا إذا كان عدد جيش العدو أكثر من ضعف عدد جيش المسلمين .. وبينا عند تفسير الآية ١٥ من هذه السورة ان الفقهاء لا يملكون الفتوى بذلك ، وان الأمر فيه يترك لتقدير قائد الجيش الخبير الأمين وحده.
ومن أجل هذا نرجح ان الآيتين هذه والتي قبلها لم تردا لبيان حكم الفرار من الزحف بوجه عام ، وإنما هما خاصتان بالنبي وأصحابه فقط ، ولا تتجاوزان إلى غيرهم ، والله أعلم بمراده.