ان من يرد الله عذابه فلن يقدر أحد أن يدفع العذاب عنه .. وإنما قالوا ذلك لأنهم لا يجيزون على الله أن يفعل الشيء ، ثم يعاقب غيره عليه.
والذي نراه في تفسير هذه الآية ان الله سبحانه نهى اليهود عن الكذب والتحريف ، والمكر والخداع ، وتوعدهم بالعذاب إن خالفوا وتمردوا. ولكنهم أصروا على العناد ، ولم يكترثوا بالنهي ، ولا بالوعيد .. فتركهم الله وشأنهم ؛ ولم يردعهم بالقسر والقهر عن الفتنة ، لأنه تعالى يعامل الناس ـ فيما يعود إلى أفعالهم ـ معاملة المرشد الناصح ، لا معاملة القاهر الغالب.
وقد أكد سبحانه ذلك بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ). أي لم يرد أن يلجئهم إلجاء إلى تطهير القلوب وتزكية النفوس ، بل جعل لهم الخيار في ذلك ، وبهذا الاعتبار صحت نسبة الفتنة اليه تعالى .. وقد أوضحنا ذلك عند تفسير الآية ٨٨ من سورة النساء ، فقرة «الإضلال من الله سلبي لا إيجابي».
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ). كرر سبحانه (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) مبالغة في الذم والقدح ، والردع والزجر ، والمراد بالسحت المال الحرام ، كالربا وما اليه .. وأشد جرما من الربا الأموال التي يقبضها العملاء من الدول الاستعمارية لتبقى شعوبهم متخلفة بائسة تتسول الرغيف ممن ينهب أقواتها وثرواتها.
(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). هذا بيان لوظيفة الحاكم المسلم إذا تحاكم لديه خصمان من غير المسلمين .. وقد اتفق الفقهاء على انه إذا كان الخصمان من غير أهل الذمة فللحاكم الخيار ، إن شاء حاكمهما ، وإن شاء رفض ، حسبما يرجحه من المصلحة .. واختلفوا فيما إذا كان الخصمان من أهل الذمة ، فقال صاحب المنار ـ من السنة ـ : يجب على الحاكم أن يحاكمهما. وقال فقهاء الشيعة : بل هو مخير ان شاء حاكم ، وان شاء رفض.
وإذا حاكم يجب عليه أن يفصل بينهما بحكم الإسلام ، لا بأحكام دينهم ، لقوله تعالى : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ).
وإذا كان أحد المتخاصمين مسلما ، والآخر غير مسلم وجب على الحاكم قبول الدعوى والحكم بما أنزل الله باتفاق المسلمين.