إقامة ، فيعرب عنها بحقيقة علامة ، وما وصف ذهبيّات أصيلها وقد حان من الشمس غروب ، ولا أزمان فصولها المتنوعات (١) ، ولا أوقات سرورها المهنئات ، ولقد أنصف من قال : ألفيتها كما تصف الألسن ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، انتهى.
رجع إلى كلام ابن جبير فنقول :
ثم ذكر في وصف الجامع أنه من أشهر جوامع الإسلام حسنا ، وإتقان بناء ، وغرابة صنعة ، واحتفال تنميق وتزيين ، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه ، ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ، ولا تدخله ، ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف ، ثم مدّ النفس في وصف الجامع وما به العجائب ، ثم قال بعد عدة أوراق ما نصه : وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة ، ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر ، وقد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار دبرت تدبيرا هندسيا ، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازين مصورين من صفر قائمين على طاسي صفر (٢) تحت كل واحد منهما أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها ، والطاسان (٣) مثقوبتان ، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة ، وتبصر البازين (٤) يمدّان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاسين ويقذفانها (٥) بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرا ، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي ، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصّفر ، لا يزال كذلك عند انقضاء كل ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ، ثم تعود إلى حالها الأول ، ولها بالليل تدبير آخر ، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة ، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة ، مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة ، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة ، فإذا انقضت عمّ الزجاجة ضوء المصباح ، وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة ، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها ، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها ، درب بشأنها وانتقالها (٦) ، يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها ، وهي التي تمسيها الناس المنجانة ، انتهى المقصود منه.
__________________
(١) في ه : «المنوعات».
(٢) في ب ، ه : «طاستين من صفر».
(٣) في ب ، ه : «والطاستان».
(٤) في ب : «البازيين».
(٥) في ب : «إلى الطاستين ويقذفانهما».
(٦) الدّرب على الشيء : المعتاد عليه ، والمتمرّن الحاذق فيه.