إذا بلغنا منه إلى مطلوبنا ، ويسّر الله تعالى أسبابه ، أقبلوا علينا بالسيوف ، ولمّا أويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله تعالى به حتى أمنوا ودرّت عليهم أخلاف النعم هزّوا أعطافهم ، وشمخوا بآنافهم ، وسموا إلى العظمى ، فنازعونا فيما منحنا الله تعالى ، فخذلهم الله بكفرهم النعم إذ أطلعنا على عوراتهم ، فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا ، وأدّى ذلك إلى أن ساء ظنّنا في البريء منهم ، وساء أيضا ظنّه فينا ، وصار يتوقّع من تغيرنا عليه ما نتوقّع نحن منه ، وإن أشدّ ما عليّ في ذلك أخي والد هذا المخذول ، فكيف تطيب لي نفس بمجاورته بعد قتل ولده وقطع رحمه؟! أم كيف يجتمع بصري مع بصره؟ اخرج له الساعة فاعتذر إليه ، وهذه خمسة آلاف دينار ادفعها إليه ، واعزم عليه في الخروج عني من هذه الجزيرة إلى حيث شاء من برّ العدوة.
قال : فلمّا وصلت إلى أخيه فوجدته أشبه بالأموات منه بالأحياء ، فآنسته وعرفته ، ودفعت له المال ، وأبلغته الكلام ، فتأوّه وقال : إن المشؤوم لا يكون بليغا في الشؤم حتى يكون على نفسه وعلى سواه ، وهذا الولد العاق الذي سعى في حتفه قد سرى ما سعى فيه إلى رجل طلب العافية ، وقنع بكسر بيت في كنف من يحمل عنه معرّة الزمان وكلّه (١) ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، لا مردّ لما حكم به وقضاه ، ثم ذكر أنه أخذ في الحركة إلى برّ العدوة.
قال : ورجعت إلى الأمير فأعلمته بقوله ، فقال : إنه نطق بالحق ، ولكن لا يخدعني بهذا القول عمّا في نفسه ، والله لو قدر أن يشرب من دمي ما عفّ عنه لحظة ، فالحمد لله الذي أظهرنا عليهم بما نويناه فيهم ، وأذلّهم بما نووه فينا.
واعلم أنه دخل الأندلس أيام الداخل من بني مروان وغيرهم من بني أمية جماعة كثيرون سرد أسماءهم غير واحد من المؤرخين ، وذكر أعقابهم بالأندلس ، ومنهم جزيّ بن عبد العزيز أخو عمر بن عبد العزيز ، وسيأتي قريبا.
وقد ثار على عبد الرحمن الداخل من أعيان الغرب وغيرهم جماعة كثيرون ظفّره الله تعالى بهم ، وقد سبق ذكر بعضهم ، ومنهم الدعي (٢) الفاطمي البربري بشنت مرية فأعيا الداخل أمره ، وطال شرّه سنين متوالية ، إلى أن فتك به بعض أصحابه فقتله.
ومنهم حيوة بن ملابس الحضرمي رئيس إشبيلية ، وعبد الغفار بن حميد اليحصبي رئيس لبلة ، وعمرو بن طالوت رئيس باجة ، اجتمعوا وتوجّهوا نحو قرطبة يطلبون دم رئيس اليمانية أبي الصباح ، فقتلوا في هزيمة عظيمة ، وقيل : نجوا بالفرار ، فأمّنهم الداخل.
__________________
(١) معرة الزمان وكلّه : أراد شدته وقساوته.
(٢) في ه : الداعي.