الذي تعضده عزائم النفوس بنشاطها ، والجوارح بخفّة حركاتها وانبساطها ، فخرجت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة إلى زيارة البيت المقدس وتجديد العهد ببركاته ، واغتنام الأجر في حلول بقاعه ومزاراته ، ثم سرت منه إلى الديار المصرية ، وهي آهلة بكلّ ما تتجمّل به البلاد وتزدهي ، وينتهي وصف الواصف لشؤونها ولا تنتهي ، ثم دخلت الغرب من الإسكندرية في البحر ودخلت مدينة مراكش أيام السيد الإمام أمير المؤمنين أبي يوسف يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ، فاتّصلت بخدمته ، والذي علمت من حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن ، ويحفظ متون الأحاديث ويتقنها ، ويتكلّم في الفقه كلاما بليغا ، وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوى ، وله فتاوى مجموعة حسبما أدّى إليه اجتهاده ، وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر ، وقد شرحت أحوال سيرته ، وما جرى في أيام دولته ، في كتاب التاريخ المسمّى «عطف الذيل». وقد صنّف كتابا جمع فيه متون أحاديث صحاح تتعلّق بها العبادات سمّاه «الترغيب». وتهدّده ملك الإفرنج ألفنش في كتابه فمزّقه ، وقال لرسوله (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)) [النمل : ٣٧] إن شاء الله تعالى ، ثم قال للكاتب : اكتب على هذه القطعة ، يعني من كتابه الذي مزّقه : الجواب ما ترى لا ما تسمع : [بحر الطويل]
فلا كتب إلّا المشرفيّة والقنا |
|
ولا رسل إلّا الخميس العرمرم (١) |
ومن شعره أبيات كتب بها إلى العرب ، وهي : [بحر البسيط]
يا أيها الراكب المزجي مطيّته |
|
على عذافرة تشقى بها الأكم (٢) |
بلّغ سليمى على بعد الديار بها |
|
بيني وبينكم الرحمن والرّحم (٣) |
يا قومنا لا تشبّوا الحرب إن خمدت |
|
واستمسكوا بعرى الإيمان واعتصموا |
كم جرّب الحرب من قد كان قبلكم |
|
من القرون فبادت دونها الأمم |
حاشى الأعارب أن ترضى بمنقصة |
|
يا ليت شعري هل ترآهم علموا |
يقودهم أرمنيّ لا خلاق له |
|
كأنه بينهم من جهلهم علم |
يعني بالأرمني قرقوش (٤) مملوك بني أيوب ، الذي كان ذهب إلى بلاد الغرب الأدنى ،
__________________
(١) الخميس : الجيش المؤلف من خمس فرق. والعروم : الجيش الكثير العدد.
(٢) المزجي مطيته : السائق مطيته. والعذافرة : الناقة الشديدة القوية. والأكم : جمع أكمة ، وهي التل.
(٣) في ب : «بلغ سليما».
(٤) في ب : «قراقوش».