في عقلي ، لا لما ينقصه ، فعرفوا بذلك قدره ، ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال : إن هذه من القلب والعين بمكان ، وإن أنا اشتغلت عنها بهمّتي فيما أطلبه ظلمتها ، وإن اشتغلت بها عمّا أطلبه ظلمت همتي ، ولا حاجة لي بها الآن ، وردّها على صاحبها.
ولمّا استقامت له الدولة بلغه عن بعض من أعانه أنه قال : لولا أنا ما توصّل لهذا الملك ، ولكان منه أبعد من العيّوق (١) ، وأن آخر قال : سعده أعانه ، لا عقله وتدبيره ، فحركه ذلك إلى أن قال : [بحر الكامل]
لا يلف ممتنّ علينا قائل |
|
لولاي ما ملك الأنام الداخل |
سعدي وحزمي والمهنّد والقنا |
|
ومقادر بلغت وحال حائل (٢) |
إنّ الملوك مع الزمان كواكب |
|
نجم يطالعنا ونجم آفل (٣) |
والحزم كلّ الحزم أن لا يغفلوا |
|
أيروم تدبير البريّة غافل؟ |
ويقول قوم سعده لا عقله |
|
خير السعادة ما حماها العاقل |
أبني أميّة قد جبرنا صدعكم |
|
بالغرب رغما والسعود قبائل |
ما دام من نسلي إمام قائم |
|
فالملك فيكم ثابت متواصل |
وحكى ابن حيان أن جماعة من القادمين عليه من قبل الشام حدّثوه يوما في بعض مجالسهم عنده ما كان من الغمر بن يزيد بن عبد الملك أيام محنتهم ، وكلامه لعبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس الساطي بهم ، وقد حضروا رواقه وفيه وجوه المسوّدة من دعاة القوم وشيعتهم رادّا على عبد الله فيما أراقه من دماء بني أمية ، وسلبهم والبراءة منهم ، فلم تردعه هيبته وعصف ريحه واحتفال جمعه عن معارضته والردّ عليه بتفضيله لأهل بيته والذبّ عنهم ، وأنه جاء في ذلك بكلام غاظ عبد الله وأغصّه بريقه ، وعاجل الغمر بالحتف ، فمضى وخلف في الناس ما خلف من تلك المعارضة في ذلك المقام ، وكثر القوم في تعظيم ذلك ، فكأنّ الأمير عبد الرحمن احتقر ذلك الذي كان من الغمر في جنب ما كان منه في الذهاب بنفسه عن الإذعان لعدوّهم ، والأنف من طاعتهم ، والسعي في اقتطاع قطعة من مملكة الإسلام عنه ، وقام عن مجلسه ، فصاغ هذه الأبيات بديهة : [بحر مخلع البسيط]
__________________
(١) العيّوق : نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن يتلو الثريا لا يتقدمها.
(٢) المهند : السيف. والقنا : الرماح ، مفردها قناة.
(٣) آفل : اسم فاعل من أفل : أي غاب.