الشّرق بحاله والغصص ، فلم تطل المدّة حتى غضب عليه المنصور واعتقله ، ونقله معه في الغزوات واحتمله ، واتّفق أن نزلت بجليقية إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقود النيران ليخفى على العدوّ أثره ، ولا ينكشف إليه خبره ، فرأيت والله عثمان ولده يسقيه (١) دقيقا قد خلطه بماء يقيم به أوده ، ويمسك بسببه رمقه ، بضعف حال وعدم زاد ، وهو يقول : [بحر الطويل]
تعاطيت صرف الحادثات فلم أزل |
|
أراها توفّي عند موعدها الحرّا |
فلله أيام مضت بسبيلها |
|
فإني لا أنسى لها أبدا ذكرا |
تجافت بها عنّا الحوادث برهة |
|
وأبدت لنا منها الطّلاقة والبشرا |
ليالي ما يدري الزمان مكانها |
|
ولا نظرت منها حوادثه شزرا (٢) |
وما هذه الأيام إلّا سحائب |
|
على كلّ أرض تمطر الخير والشّرّا |
انتهى.
وأما غالب الناصري فإنه حضر مع ابن أبي عامر في بعض الغزوات ، وصعدا (٣) إلى بعض القلاع ، لينظرا في أمرها ، فجرت محاورة بين ابن أبي عامر وغالب ، فسبّه غالب وقال له : يا كلب ، أنت الذي أفسدت الدولة ، وخرّبت القلاع ، وتحكّمت في الدولة ، وسلّ سيفه فضربه ، وكان بعض الناس حبس يده ، فلم تتمّ الضربة وشجّه ، فألقى ابن أبي عامر نفسه من رأس القلعة خوفا من أن يجهز عليه (٤) ، فقضى الله تعالى أنه وجد شيئا في الهواء (٥) منعه من الهلاك ، فاحتمله أصحابه وعالجوه حتى برىء ، ولحق غالب بالنصارى ، فجيّش بهم (٦) ، وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام ، فحكمت الأقدار بهلاك غالب ، وتمّ لابن أبي عامر ما جدّ له ، وتخلّصت دولته من الشوائب.
قالوا : ولمّا وقعت وحشة بين ابن أبي عامر والمؤيّد ، وكان سببها تضريب الحساد فيما بينهما ، وعلم أنه ما دهي إلّا من جانب حاشية القصر ، فرّقهم ومزّقهم ، ولم يدع فيه منهم إلّا من وثق به أو عجز عنه ، ثم ذكر له أن الحرم قد انبسطت أيديهنّ في الأموال المختزنة بالقصر ،
__________________
(١) في ب : «يسفيه».
(٢) نظر شزرا : نظر بمؤخر عينيه غاضبا. وفي ب : «ما يدري الزمان مكاننا».
(٣) في ب : «وصعد».
(٤) أجهز عليه : فتك به وقتله.
(٥) في ب : «الهويّ».
(٦) جيّش بهم : استكثر بهم.